لو سئل أى إنسان : َمن من الناس تحب أن يكون أفضل منك؟
فإننا نتوقع أن تكون الإجابة : لايحب أحد أن يكون غيره أفضل منه إلا أولاده.
ولكى يكون أولادك خيرا منك ، لابد أن تحسن إعدادهم ، بالتربية والتعليم . أو بقراءة أخرى، تمنعهم من سوء الاًدب ،وتمنعهم من الجهل.
وتلك ما سماها الله الحكمة.
الحاء والكاف والميم أصل واحد يدل على المنع.
ومنه الحكمة ، وهى تأتى من العلم الذى يمنع الجهل بالأشياء ، ويأتى حسن الخلق الذى يمنع من الجهل على الناس بأرذل الأخلاق .
فيكون الحكيم هو المتقن للأمور ، المنضبط فى تصرفاته مع الناس .
وإذا أوتى الإنسان الحكمة ، فإنه يمتنع بها عن الجهل بالأمور فيتعلم ، ويمتنع بها عن الجهل على الناس فيتعامل . وهما غاية ما يرجوه الإنسان لنفسه ولأولاده ، أن يتقنوا العلم والتعامل, أى التربية والتعليم.
وأول ثمار الحكمة ، أن تعلم عن الله و تعلم حق الله عليك ، وأن تتقن التعامل معه ، بفعل طاعته ، وترك معصيته، فى القول والعمل ، وأن ترضى بما قسمه الله لك ، وهذا هو عين الشكر لله .
ولقد ضرب الله مثل الحكمة فى لقمان ، وكيف يستفيد منها الإنسان لنفسه ولأولاده وللناس ، قال سبحانه فى سورة لقمان : ” ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله “والشكر لله هو الاعتراف بنعمة الله ، وفعل ما يجب من الطاعة, وترك المعصية, وحقيقة الشكر الرضا باليسير. فإن شكر الإنسان واستمر فى الشكر كان ذلك لمصلحته ولنفسه “ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد” الشكر حالة مستمرة عبر القرآن عنها بالفعل المضارع , والكفر حالة منتهية عبر عنها القرآن بالفعل الماضى , واستغنى الله عمن كفر , وحمد لمن يشكر .
خرج لقمان بحكمته أول ما خرج – إلى ابنه ” وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابنىّ لا تشرك بالله ، إن الشرك لظلم عظيم “. والشرك هو طاعة غير الله .
هل لو طلبت من ابنك شيئا سيستمع إلى طلبك ؟
وهل إذا طلبت من ابنك ألا يطيع إلا الله ، هل سيجد كل ما يريد عند الله ؟ هل لن يحتاج إلى أحد غير الله ؟ هل يكفيه الله ؟
إن الله أّّّّوّلا يوصى الإنسان بوالديه إحسانا , لكى يكونا وسيلة لتعريف ابنهما بالله , وتوصيله إلى الله , ويبرّر هذه الوصية بما لأمه من فضل عليه في الحمل والوضع والفصال , ويطلب الله منه ذكر الفضل لأهله بالشكر لله والشكر للوالدَين وإلى الله المصير ” ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن ,وفصاله فى عامين ,أن اشكر لى ولوالديك إلىّ المصير”.
فإن لم يؤد الوالدان دورهما , بل زادا على ذلك بأن جاهدا الابن على أن يشرك بالله ما ليس له به علم , فلا ينبغى عليه أن يطيعهما , ولا مانع من مصاحبتهما فى الدنيا معروفا للمحافظة على العلاقات الأسرية ,” وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا “. وإنما عليه أن يبحث عمن يدله على طريق الله ويسلك طريقه ” واتبع سبيل من أناب إلى “. ثم إلى الله مرجعهم جميعا فينبؤهم بما كانوا يعملون ” ثمّ إلىّ مرجعكم فأنبؤكم بما كنتم تعملون” .
بعد هذه الوصية الغالية من الله للإنسان بوالديه , يطمئن لقمان على أن ابنه سيستمع إلى موعظته , فيستكملها
إنه يريد أن يقنع ابنه بأن عدم شركه بالله – أى عدم طاعته لأحد غير الله – سيكون كافيا , أى أن اعتماده على الله يكفيه , أى أنه سيجد عند الله كل ما يريد من علم ومن تعامل. فهو يقول له : ” يابنىّ إنها إن تك مثقال حبة من خردل (أى غاية فى الصغر) فتكن فى صخرة ( أى غاية فى الصعوبة) أو فى السموات (أى غاية فى البعد) أو فى الأرض ( أى غاية فى العمق وغائرة) يأت بها الله (يعلم مكانها ويقدر عليها ويأتى بها) إن الله لطيف خبير” (يصل إلى غايته سبحانه بسهولة ويسرولطف , ويحصّلها بقدرة وخبرة .
وإن كانت هذه إمكانيات الله فى اللطف والخبرة , فإن أى شئ دون ذلك يكون أهون عليه.
بعد أن يقتنع الابن بقدرات الله , فإن عليه أن يقيم الجسر بينه وبين الله , وينشئ الصلة المستمرة بالله” يابنى أقم الصلاة” وبإقامة الصلاة , يسجد لله فيكون أقرب ما يكون إلى الله , ويقرأ كتاب الله فيستقى منه العلم والأدب والخلق والمعاملات, ويجتمع بالناس يصلي , ويعين على الصلاة , فيذكر بعضهم بعضا بالله.
“وأمر بالمعروف وانه عن المنكر” إنه يحتاج إلى قوة لكى يأمر وينهى , قوة فى الشخصية , فى العلم , فى الأخلاق ,
“واصبر على ما أصابك” لأنك ستتعرض للمواجهات مع من تنصحهم , حيث لا يحب الناس الناصحين.”إن ذلك من عزم الأمور”
فإذا وصلت إلى هذا المستوى , فإن الذى يهدم ذلك كله , التكبر على الناس , أو الغرور فى النفس, حيث يرفض الناس الاستماع للمتكبر , كما يقف المغتر عند غروره فلا يتعلم , وهما أول الذنوب التى عصى الله بها .”ولا تصعر خدك للناس ولا تمش فى الأرض مرحا , إن الله لا يحب كل مختال فخور”
فإذا بلغت هذا العلو والمقام الرفيع من الإعداد والتجهيز, والعلم والمعرفة, والصلة الوثيقة بالله, فلا تضيع وقتك ” واقصد فى مشيك , واغضض من صوتك , إن أنكر الأصوات لصوت الحمير” , لا تذهب إلى مواطن اللهو واللعب, وفر حياتك لما هو أهم , فإن وقتك أصبح غاليا ويجب استثماره فى ما يعم به النفع للناس , أى أنك لم تعد ملكا لنفسك الآن, فاقصد فى مشيك, واغضض من صوتك, حيث لا يدل ارتفاع الصوت إلا على وعاء أجوف , وغض الصوت من الآداب التى يجب أن تتحلى بها .
إذن فإن موعظة لقمان لابنه, وموعظة كل أب لابنه تتلخص فى الآتى :
- إن كنت ذا حكمة, فلا تكتمها, ولكن لتخرج بها إلى الناس, شكرا لله, واستمر فى ذلك دون تراخ أو تهاون.
- لاتشرك بالله , فلا تطيع إلا الله, ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق, ولا تظن أن رزقك أو حياتك أو سعادتك أو شقاءك, أو نجاحك, أو نصرك بيد أحد غير الله. وكما قال الله سبحانه: (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا, فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له, إليه تُرجعون)
- إن لأهلك عليك حقا , فليكونوا أول من يتلقى عنك الموعظة والحكمة .
- لقن أولادك المنطق والأسباب التى بها يحترمون والديهما , خاصة احترام الأم, لما تحملت من كره في حملهم ووضعهم وإرضاعهم وهو بعدُ لا يدركون.
- كن عونا لأولادك على الصلة بالله , لا يشغلك عن ذلك شاغل ” وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها, لا نسألك رزقا , نحن نرزقك , والعاقبة للتقوي ” فلا تحتج بسعى ولا بتحصيل رزق , فإنك أنت مرزوق , و العاقبة للتقوى”.
- إن لم يكن الآباء عونا لأبنائهم على الصلة بالله , بل كانا يدفعانهم فى طريق الشرك , فلا طاعة لهما , ولا مقاطعة لهما , بل مصاحبة فى الدنيا معروفا .
- فى هذه الحالة, فإن على الأبناء التعرف على من ينيب إلى الله , واتباع سبيلهم , لكى يأخذوا بأيديهم إلى طريق الله , ويهدونهم السبيل إلى الله , ثم يرجع الجميع إلى الله لينبئهم بما كانوا يعملون.
- عرف أولادك على قدرات الله , وأسمائه وصفاته , وإمكانيات الله, وآثار رحمة الله . بين لهم كيف أن الله قادر على أن يأتى لهم بأى شىء يحتاجون إليه , مهما صغر , ومهما صعب , ومهما بعد , ومهما غار وعمق , فهو يعلم مكانه , ويأتى به , فلا يسألون إلا الله ولا يستعينون إلا بالله , فهو اللطيف الخبير. الذي يفعل ما يريد بلطف دون أن تشعر أو تدرك.
- علم أولادك كيف يصلون, ويقيمون الصلاة, وكيف ينشئون الجسور بينهم وبين الله, بالتنشئة على الطاعة, والتعرف إلى الله فى الرخاء لكى يعرفهم فى الشدة, ومراقبة الله فى اليوم والليل, والوقوف بين يديه خاشعين , ويدعون إخوانهم وزملاءهم إلى الصلاة, وبالسجود إلى الله, وفي ذلك التسليم الكامل لله, والذلّ والخضوع إليه وحده لا شريك له, وعدم الذل والخضوع لأحد من خلقه, ولا لشيء مما خلق.
- علمهم أن يكونوا إيجابيين, فلا يكتفون بأنفسهم نصحا وإصلاحا , ولكنهم يتوجهون إلى المجتمع , فما وجدوا من معروف أمروا به , وما شاهدوا أو علموا من منكر نهوا عنه. فهم يأمرون وينهون .
- ولكى يأمروا فيطاعوا , وينهوا فينتهى الناس, لابد لهم من قوة تمكنهم من ذلك , فعليهم أن يبنوا هذه القوة , فى صور متعددة : فالخلق الحسن قوة تجعل الناس يستمعون إليك ويلجأون إليك, والمعاملة الطيبة قوة, والعلم قوة, والثقافة قوة تلجئ الناس إليك, والعلاقات العامة المبنية على أساس الإخلاص لله قوة, والمال الذى يأتى من الحلال, ويؤدى حق الله فيه قوة تجعل الناس يتمنون زيادته عندك, والدراسات المتخصصة قوة تجعلك متفردا بين أقرانك يلجأ الناس إليك للمعونة.
- حين تصل إلى هذا المستوى من التميز, ومن القدرة على النصيحة , فستجد من الناس من لا يقبل ذلك , حيث لا يحب كثير من الناس الناصحين, فهم قد يشعرونهم بالنقص, فتوقع منهم أن يسيئوا إليك ويصيبوك, فعليك أن تتحلى بالصبر على ما أصابك , إن ذلك من عزم الأمور.
- إن الآفة التى يمكن أن تهدم هذا كله , وتمنع نصيحتك من الوصول إلى الناس , وتحول دون استفادتهم من أمرك ونهيك, هى تكبرك عليهم, وغرورك. لهذا, فتجنب هذه الآفة, ولاتصعر خدك للناس, ولا تمش فى الأرض مرحا , إن الله لا يحب كل مختال فخور, وتذكر أن هذا أول ذنب عصى الله به في كونه وملكه.
- إن قيمتك الآن أصبحت غاية فى الارتفاع والعلو والسمو,وراجع كل ما سبق لتتأكد من ذلك , إذن لا تضيع وقتك فى ما لا فائدة فيه , ” واقصد فى مشيك ” فكل لحظة لها قيمتها لصالحك وللناس .
- ومادمت ستأمر وستنهى , وما دمت متواضعا , فلا داعى لرفع الصوت دون سبب , فالوعاء الأجوف يعلو رنينه , ويرتفع صوته, لهذا فلا تتحدث بصوت مرتفع , واغضض من صوتك, أن أنكر الأصوات لصوت الحمير. فكفى بالحق قوة لا تحتاج معها إلى رفع الصوت.