وقبل البحث في بقية الحروف, بدأت في النظرة العامة للحروف لبلورة النتيجة المبدئية التي اتضحت, ووضع العلوم والمصادر الهامة الآتية التي ينبغي أخذها في الاعتبار عند تناول دراسة الحروف الفواتح في القرآن الكريم, والله أعلى وأعلم, ونسأله التيسير للخير والحكمة التي يؤتيها من يشاء, وأستغفره عن كل خطأ قد أقع فيه, وأعوذ به من كل قصد لا يرضيه سبحانه,
وقد أخذت العناصر التالية في الاعتبار:
● الحروف الفواتح, ومجموعاتها بترتيب نزول سور القرآن, ومن مراجعة ترتيب النزول على أرجح الأقوال, بالجدول السابق, يتبين تجمُّع الحروف المتشابهة في مجموعات متتالية حسب ترتيب نزول سورها, فسلسلة الصاد, والطا, والرا, والحا, والميم.. وهناك بعض الاختلاف مثل وجود (ألم لقمان) بعد مجموعة (ألر) , ووجود (ألر) إبراهيم قبل مجموعة (ألم) الأخيرة. ولذلك تعليل يأتي بإذن الله
● الآيات التالية للحروف الفواتح, تعطي إشارات لمعاني الحروف
● محاور السورة, بدراستها وملاحظة نقاط التحول في اتجاه الآيات تتبين حدود للآيات المعبّرة عن كل حرف, مثلما تبين في سورة طسم الشعراء التي قسّمت إلى ثلاثة مقاطع ومحاور منفصلة وواضحة, وفي سورة طه, في مجموعات لكل مجموعة مقطعان يدلان على الحرفين (طا (ها) وسيتكرر ذلك في سورة القصص, وفي غيرها.
● مقارنة الحروف الفواتح وتركيباتها, مثلما نقارن محاور سورة صاد, مع محاور سورة الأعراف التالية لها والمبدوءة (ألف لام ميم صاد) ومثل (طا سين ميم الشعراء أو القصص, و طا سين النمل) لمحاولة التعرف على الحرف المختلف في مجموعة متشابهة غير متطابقة, ومحاولة تحديد مدلوله ( حرف الميم في طسم الشعراء أو القصص, بالمقارنة ب طا سين في النمل)
● ترتيب قصص الأنبياء, فليس الترتيب دائما على أساس ترتيبهم التاريخي عليهم السلام, ولكن بمدارسة أسباب الترتيب يتبين عنصر آخر لمدلولات الحروف.
● تفاصيل القصص في السورة ودلالاته, فأمر الله لأم موسى في سورة طه, فيه شدة كبيرة وأمره في سورة القصص (فألقيه في اليم). وتهديد فرعون للسحرة في سورة طه أشد من تهديده لهم في سورة الأعراف مثلا, أو الشعراء, وسورة طه, تبين قمة الشقاء والشدة التي تعرض لها موسى طفلا, وأمه, والتي تعرض لها سحرة فرعون, يعقبها قمة السهولة, بإنقاذ موسى بمحبة من الله, وبتهوين السحرة لعقوبات وتهديدات فرعون.
● توجد مفاتيح خاصة في السور المبدوءة ب (تلك آيات الكتاب المبين) و (تلك آيات القرآن وكتاب مبين) و (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين), و(والكتاب المبين): فالسور المبدوءة بحروف فواتح, ويعقبها قول الله: (تلك آيات الكتاب المبين) هي مفاتيح للحروف, فالله سبحانه يشير إلى ذلك بقوله : (تلك) وقد يكون هذا إشارة إلى بعيد من المعاني لا تدركه العقول من أول نظرة, وهذه السور حصرا وبترتيب النزول هي:
- آيات الكتاب المبين:
● أول سورة يذكر فيها آيات الكتاب المبين هي الشعراء (طسم* تلك آيات الكتاب المبين) وهي فيما أرى مفتاح المفاتيح, حيث تبين قمة الصعوبات, وقمة التسهيلات.
● وتلتها سورة القصص (طسم* تلك آيات الكتاب المبين), وفيها قمة التحدي بعلو فرعون في الأرض, أمام ما تعرض له موسى من صعوبات في كل مراحل حياته, طفلا, وفتى قبل الزواج عند خروجه خائفا يترقب, وحين تولّى إلى الظل, ليس له بيت يؤويه, وحين ذهب إلى فرعون ولسانه لا يفصح, ورغم هذا وذاك, ينصره الله على فرعون, أصعب شخصية في التاريخ, يقتّل الأبناء ويستحيي النساء, وعلا في الأرض, وادعى الألوهية.
● ثم سورة يوسف (ألر تلك آيات الكتاب المبين) بيان لدور الحكمة التي آتاها الله يوسف, وكيف بناها الله فيه, وكيف أصلح به شأن المجتمع كله, ناسه واقتصاده ومستقبله, فهي آيات الكتاب المبين, وكأنها بيان عملي للحكمة.
- آيات القرآن وكتاب مبين, أو آيات الكتاب وقرآن مبين: والسور المبدوءة بحروف فواتح تعقبها بكلمة (كتاب مبين) والتقليم بينها (التمييز والفوارق بينها) هي:
● سورة النمل (طا سين, تلك آيات القرآن وكتاب مبين), ذكرت آيات القرآن أولا
● سورة الحجر (ألف لام را, تلك آيات الكتاب وقرآن مبين), ذكرت آيات الكتاب أولا.
● تكرار بعض الألفاظ ومشتقاتها في السورة, وفي القرآن كله. (مثل تكرار كلمة لسان وكلمة مبين في سورة الشعراء)
● أحداث السيرة النبوية ومناسبات نزول السور أو بعض آياتها
● الأحاديث النبوية الشريفة التي حوت أي شيء عن الحروف الفواتح, وهي قليلة العدد, عميقة المغزى والمعنى.
● استعراض كل ما نستطيع الوصول إليه مما قيل ويقال من آراء عن الحروف الفواتح أو الصيغ الصوتية كما يطلق عليها, وعلى رأسها أقوال الصحابة رضوان الله عليهم, وآراء العلماء على مرّ التاريخ, وآراء المستشرقين, وآراء غير المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم, حتى ما قاله المغرضون والكافرون[1].
المبحث الثاني
بلسانٍ عربيٍ مبينٍ
لماذا كان اللسان العربي مبينا؟
وحين بلغت في مدارستي الآية: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195) سألت نفسي:
لماذا كان اللسان العربي مبينا؟
وما معنى أن اللسان مبين؟
ما هو وجه الإبانة في اللسان العربي؟
وهل هذه خاصية فيه دون غيره من الألسنة الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها؟
أليس كلام الإنجليزي مفهوما وبليغا بالنسبة لأهل لغته؟ فما هو الفرق في اللسان العربي؟
هذه أسئلة يجيب عليها هذا البحث!
اللسان يرسم الحرف العربي حين ينطقه!!
رجعت إلى كتب علم التجويد, فوجدت أن علماءها قد ذكروا صفات الحروف ومخارجها لتيسير النطق بها وتصحيحه عند تلاوة كتاب الله, وقد زاد بعضهم فرسم شكل مخارج الحروف في مجموعة النطق في الإنسان أثناء النطق بكل حرف, فلاحظت أن:
رسم الحرف باللسان:
شكل اللسان عند النطق بالحرف يتطابق أو قل يتشابه مع شكل كتابة الحرف, أخذا في الاعتبار أننا نتحدث عن الرسم باللسان واللهاة والشفتين والحلق والخيشوم واللثة والأسنان , واعتبار أجزاء اللسان من طرفه ووسطه, فالأمر يحتاج إلى إعمال التصور والخيال شيئا ما. وبيان ذلك مرفق أدناه, وهو مأخوذ من كتب علم التجويد, بدون أية إضافات أو تعديلات
بلسان عربي مبين
لاحظ رسم اللسان للحروف, مقارنا بالخط الأندلسي, خاصة حروف:
جـ حـ خـ د ش ص ض ط ظ ـعـ ق ـهـ ى
فاللسان العربي المبين, يبين في رسمه شكل الحرف, وبالتالي يساعد في فهم معناه أو مدلوله, وسيأتي مزيد من البيانات بإذن الله فيما بعد, فمثلا يلاحظ أن الجيم ترتفع من طرف اللسان, وتنخفض من جذره, وتستعمل الجيم في مقدمة كلمات تدل على الإتيان من الخارج إلى الداخل, أو من أسفل إلى أعلى, كما نقول: جاء, جُحْر, جمع, جَدّ, جبل, جمل, جرى, والحاء ترسم انخفاضا من الخارج, ثم ارتفاعا في الوسط, ثم انخفاضا في الداخل, وهي تدل على الحركة, والخاء ترسم ارتفاعا مائلا إلى أعلى وللداخل, ومنها الخلود, خرج, خسّ, خشي. وسيؤخذ ذلك في الاعتبار عند دراسة كل حرف على حدة.
ويلاحظ بشكل واضح الحروف (د) و(ص) و(ط), وأما حرف النون, فاللسان حين ينطقه يرسم شكل الحرف في الكتابة التي تقلب فيها النون, وتكون نقطتها من أسفل.
بل إن هذه الأشكال للحروف, تحتاج إلى مراجعة دقيقة , ربما تكون بأخذ لقطات من أجهزة الأشعة الصوتية أو غيرها, أثناء نطق كل حرف, حيث أعتقد أن علماء التجويد اجتهدوا في مراجعة شكل اللسان والفم أثناء النطق, ولكن الأجهزة الحديثة ستكون أكثر دقة. مثلا: حرف الطاء لابد أن يكون طرف اللسان فيه مضغوطا في أعلى اللثة, حيث يضغط اللسان فيكون حرفه مبططا, ويقترب أكثر من شكل حرف (ط), وربما يتضح أكثر من رسم حرف (ظ) في الشكل أعلاه, إلا أن طرف اللسان أيضا في (ذ) و(ز) و (ظ) لابد أن يخرج من بين الأسنان, فيدل دائما على زيادة فوق الحروف (د) و (ر) و (ط), ويتضح أكثر عند تناول كل حرف بالتفصيل.
مخرج الحرف
ومخرج الحرف أيضا له مدلول, فالهمزة تخرج من الجوف, من أول مخرج, فتدل على أوائل الأشياء, فنقول: لفظ الجلالة (الله), أول, أب, أم, أساس, أستاذ. وفي حالة مدّ الهمزة تدل على البدايات الأولى, أو النهايات الأخيرة, فنقول: آدم, آخر.
والأمر يحتاج إلى المزيد من الملاحظات والبحوث والدراسات.
وتكون مجموعة الحروف طسم في فاتحة سورة الشعراء كالتالي:
ط س م
الحرف في اللغة العربية له مدلوله الخاص
من خلال الحروف الفواتح لسور القرآن الكريم, يتبين أن الحرف في اللغة العربية له مدلوله الخاص قبل أن يرتبط بلفظ معين. هذا المدلول ثابت في أي لفظ يشترك الحرف في تكوينه, وأن الحرف هو اللبنة الأولى للّفظ وللكلمة.
ومن هذه الزاوية للحروف الفواتح, يبدو أن اللغة العربية تبدأ من الحرف, وليس من اللفظ والكلمة كبقية اللغات الإنسانية
فالذي يريد أن يتعلم اللغة الألمانية أو الإنجليزية, أو أية لغة غير العربية, عليه أن يتعلم قواعدها, مع تركيب الجمل فيها, مع الكثير من الكلمات من أسماء وأفعال وحروف, ثم هو بعد ذلك يمارس اللغة قراءة وكتابة ومحادثة.
أما اللغة العربية بهذه الحروف الفواتح, تكون مختلفة تماما, فهي تبدأ من الحرف. والذي يريد أن يتعلم اللغة العربية, سواء كان طفلا, أو إنسانا غير ناطق بالعربية, فسنأتي به, فنعلمه:
● مخرج كل حرف,
● كيفية نطق كل حرف من الحروف الثمانية والعشرين, والهمزة والألف المدية والياء المدية والواو المدية, ومخرج كل حرف في الفم.
● مدلولات الحركات التي تحكم النطق بالحروف (التشكيل أو الشكل) من ضمة وفتحة وكسرة, وسكون وتشديد, وفي القرآن إشارة إلى ذلك سوف تتضح فيما بعد
● المدّ والقصر،
● زمن المدود في تلاوة القرآن, أو عدد الحركات لكل حرف.
● رسم الحرف باللسان ومجموعة النطق (الجوف والحلق أقصاه ووسطه وأوله والحنك الأعلى والأقصى والأدنى, والحنجرة, واللسان المزمار, والخيشوم وفتحة الأنف, والشفتين العليا والسفلى, والأسنان الثنايا, وتجويفه واللسان وسطه وجانبيه وطرفه, وشكله ضاغطا على اللثة أو خارجا من الأسنان
● مدلول كل حرف فيها, (وهو مازال قيد البحث المستمر)
● ثم بعد ذلك نخلّى بينه وبين الكلمات, يقرأها حرفا حرفا, فيفهمها دون قاموس, وينطقها كما يرى حركات اللسان والشفاه أثناء نطق الحروف, وتلك الحركات لها أيضا مدلولاتها من معاني الحروف, ومن ثم الألفاظ والكلمات, ومن ثم الجمل والتراكيب اللغوية.
● بذلك تصبح اللغة العربية نغمات محددة يدركها أي إنسان, صوتيات ((Phonetics تماما كما في نغمات الموسيقى السبعة (دو ري مي فا صو لا سي) التي منها تتكون كل الموسيقات في العالم مع الفارق. والسامع لمقطوعة موسيقية بلحن حماسي يتحمس ويتأثر بها، يخلاف المقطوعة الحزينة أو الحالمة أو الهادئة الناعمة. فتتوحد مفاهيم الناس للموسيقى, على اختلاف ألسنتهم وألوانهم.
● ثم بعد ذلك, يتناول كتاب الله, فيقرأه دون ترجمان, ويفهمه من مدلولات حروف كلماته
وهذا قد يوضح آية الله: (بلسان عربي مبين)
فلو أن أستاذا في علم من العلوم, قال لطلبته وتلاميذه, لقد يسرت لكم المنهج, فإن الطلبة لابد وأنهم يتوقعون تيسيرا يصل إلى مستواهم مهما دنا, ويتناسب مع قدر علم أستاذهم ومهاراته.
ولله المثل الأعلى, حين يقول الله: (ولقد يسرنا القرآن للذكر) فلابد أنه سبحانه قد جعل القرآن في قمة التيسير للذكر, بقدرة الله وعلمه ورحمته, ينطبق هذا التيسير على كل كلمة في القرآن, وعلى كل إنسان عاقل مكلّف في الدنيا, في أي مكان, وفي أي زمان, ولكننا للأسف لا نتناول القرآن بالبحث والذكر والادّكار, حتى يأتي الرسول شاكيا: (وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا).
إن ما أتخيله من تبسيط تعلٌّم اللغة العربية لغير الناطقين بها, وللناطقين بها, لابد أن يصل إلى أسلوب غاية في اليسر والسهولة, لا تعقيد فيه, حتى يتناسب مع تيسير الله القرآن للذكر, وأنه بعد استكمال البحث والدراسة, سوف نصل أو يصل غيرنا بإذن الله إلى أسلوب ومنهاج لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها, بدءا من الحروف, التي كانت الحروف الفواتح سبيلا للتعرف على مدلولاتها, ومدلولات الحركات الأربعة من فتح وضم وكسر وسكون, مع التشديد (أو الشدّة)
وهذا يرد على التساؤل: كيف يكلّف غير العربي بالقرآن, ويتواصل معه مباشرة دون واسطة من أشخاص عرب, قد يتقنون اللغة العربية, وقد لا يتقنونها, وقد يتقنون اللغات الأجنبية الأخرى وقد لا يتقنونها, كما أنهم يختلفون في مفاهيمهم عن معاني القرآن, وتتأثر ترجماتهم حسب مستواهم اللغوي في اللغتين العربية ولغة المتعلم غير العربي, وفهمهم للقرآن, فيؤثرون بالتالي على من يتعلمون منهم, ويمثلون حجابا بينهم وبين آيات الله.
كما يرد على التساؤل: كيف نذهب إلى غير العرب, فنقرأ عليهم آيات الله: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) على أنهم المعنيّون بها تماما كما يعنى بها أي إنسان, عربي وغير عربي, وهذه الآية وأمثالها لم تنزل للعرب خاصة, وإنما هي للعالمين, كونها من آيات القرآن الذي هو هدى للناس كل الناس.
[1] جمع الأستاذ الدكتور حسين نصار في كتابه “فواتح سور القرآن” بين كل ما قيل فيها من أحاديث رسول الله, وأقوال الصحابة, والعلماء والمستشرقين إلى عام 2002 تاريخ طباعة الكتاب