لا إله إلا الله مفتاح كل عمل صالح, وباب كل الخير, وعليها تتأسس الحضارة الإنسانية التي يبنيها القرآن الكريم
وبعد تأسيس القواعد الأساسية, للحضارة, تحدد سورة الذاريات الهدف من العمل.
وحيث أن الحضارات تبنى بالعمل الصالح, المؤسس على مجتمع إنساني مبني على القواعد الأساسية المذكورة, فقد احتفى القرآن بالعمل الصالح, فوضع له هدفه, الذي تؤسس عليه نتائجه, ووضع معايير قياسه وقبوله, ثم بين أنواعا من الأعمال والأشغال وفتح أبواب السعي والتسابق فيه لبناء الحضارة الإنسانية.
وعادة ما يعمل الإنسان ويسعى بهدف تحصيل الرزق, ونستمع إلى القائل: (أسعى على رزق عيالي), وهناك أهداف أخرى يضعها الإنسان لعمله وسعيه, كتحقيق الذات, والمكانة المرموقة, وتأمين المستقبل, وبناء العمائر, ورفع مستوى المعيشة, وكلها أهداف شريفة.
غير أن الهدف من العمل والسعي في الحضارة الإنسانية التي يبنيها القرآن يجب ألا يكون إلا عبادة الله بالإخلاص له, وطاعته. وأي هدف غير ذلك يمكن أن يودي بالإنسان إلى التهلكة. فلو وضع الرزق كأولوية أولى قبل الإخلاص, فقد يتهور الإنسان في تحصيله من مصادر مشبوهة, كما يمكن ألا يسعى الإنسان على الإطلاق إن كانت لديه مصادر سهلة للرزق, من ميراث وممتلكات وغيرها. ولكن الذي يضع هدفه طاعة الله والإخلاص له, فإنه يعمل حتى ولو لم يحصل على رزق من وراء هذا العمل.
يتأسس العمل الصالح على التوحيد, فيوقن المؤمن بأن مصادر الرزق الأساسية هي من الله وحده, فلا يكون الرزق هو الهدف للمؤمنين الساعين للعمل الصالح, بل يكون هو إحدى الثمرات, ولكن الإخلاص لله يقتضي أن يكون العمل الصالح خالصا لوجهه الكريم طاعة لله, وابتغاء مرضاته
الرزق مكفول من الله, والسعي مطلوب من الناس.
وحين يذكر الرزق, فإن السامع يذهب إلى الطعام والشراب, ثم المال بأنواعه, ثم لا ينحصر معنى الرزق في كل ذلك, بل يشمل الصحة والأولاد والسعادة, والزواج الصالح السعيد, بل قل يشمل نعم الله التي لا نحصيها.
فالله سبحانه يأمر الرياح فتذروا الحبوب (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)), ويأمر السحاب فيحمل أثقالا من الماء (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)), ثم تجري به الريح يسرا, كما تجري بالسفن بالتجارة والصيد (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3), ويأمر الله الملائكة فتقسم الأرزاق (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)),
وهذه آيات الله الكونية أمام أعيننا, دليل على صدق آيات الله القرآنية المنزّلة, وبالتالي (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)) فقد وعد الله بأن يرزق كل دابة في الأرض, وصدق وعد الله, كما وعد بأن يحاسب الناس على أعمالها, وصدق وعد الله. فلا يجب أن يستهدف العاملون والساعون الرزق من وراء سعيهم, ولكنه سيأتيهم كنتيجة طبيعية وكسبب من الأسباب المتعددة للرزق, وثمرة من ثماره, وليس هدفا (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
وتبقى عبادة الله وطاعته هي الهدف (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)