المحور الثالث: ميم التكاليف:
حيث أن الهدف أن يكون الدين كله لله, وأن وسيلة تحقيقه أن يتم ضم الذين يؤمنون بآيات الله تحت لواء واحد, في مواجهة الذين يكفرون بآيات الله, فقد اشتمل المحور الثالث لسورة آل عمران على تصحيح ما فسد من عقيدة الذين يؤمنون بآيات الله.
أولا: تصحيح العقيدة:
ومن هنا, يبدأ القرآن في تصحيح الاختلافات في العقيدة بين الذين يؤمنون بآيات الله, من المسلمين واليهود والنصارى, كما يصحح عقيدة من لا يؤمن بآيات الله, وذلك بوسائل مختلفة, وبالتدرج, ويقارب في وجهات النظر, ويبين الحد الأدنى للعقيدة الصحيحة. وهذه هي الخطوات التدريجية للتصحيح..
● طبيعة عيسى بن مريم عليه السلام:
- إن أول ما يصححه الله من عقيدة أهل الكتاب , هو طبيعة عيسى عليه السلام, والفصل في مسألة ميلاده من أم بغير أب (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59), ولا داعي للوقوع في الفتنة بسبب أنه عليه السلام خلقه الله من امرأة بدون رجل, وذلك من طلاقة قدرة الله حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أثنى بلا ذكر، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى, وقد بين في أوائل السورة مجمل ذلك, (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء).
- ولا ينبغي أن يتشكك المؤمنون أمام هذا الحق من ربهم (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)).
- فإن استمر بعض من أهل الكتاب في الجدال بشأن طبيعة عيسى ابن مريم, فإننا نردهم إلى أنفسهم بينهم وبين الله, بأن نعرض عليهم أن ندعو أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم, وأنفسنا وأنفسهم, ثم نتوجه إلى الله بالدعاء باللعنة على الكاذبين. (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) وقد فعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم, فدعا أهل الكتاب لتنفيذ هذا, ولكنهم امتنعوا عن الدعوة ورفضوا الدعاء باللعنة على الكاذبين .
- ويحسم الله القصص الحق في هذا الشأن (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ..) فيؤكد بحرف (إنّ) وبالإشارة إلى ما سبق من قصص (هذا) وباللام وضمير الغائب (لهو) وبالتعريف بالألف واللام (القصص) وبكلمة (الحق), فيؤكد وحدانية الله سبحانه , وعزته وحكمته أيضا بتوكيد (..وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62))
- وفي هذه المرحلة وقبل مبعث عيسى عليه السلام, فإن المسلمين يكفيهم البيان, ثم يترك أمر المفسدين لله (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
- ثم يحاول المسلمون الوصول إلى الحد الأدنى من الاتفاق بين أهل الكتاب جميعا في ثلاث نقاط: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أ. أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ
ب. وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا
ج. وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
ويكتفي المسلمون بإشهاد أهل الكتاب على دعوتهم دون تزيّد في المواقف (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)) فهي إذن دعوة سلمية, لا حدّة فيها, تبين أننا نطلب منهم أن نكون جبهة واحدة أمام حزب الشيطان وجبهة الكفر بوجود الله, والمكذبين بآيات الله.
● إبراهيم عليه السلام:
ثم يبدأ تصحيح الاعتقاد في إبراهيم عليه السلام, باعتباره أبا للجميع, فمنه إسحاق, ومنه إسماعيل, وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده, فهو ليس بيهودي ولا بنصراني, ولكن كان حنيفا مسلما (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
● محاولات إضلال طائفة من أهل الكتاب
- ثم يحذر من إضلال طائفة من أهل الكتاب: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69))
- ثم تصحيح عقيدة أهل الكتاب في موقفهم من آيات الله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70))
- فإذا تبين لهم الحق, فإنهم يُحَذّرون من إلباس الحق الباطل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وهذا التحذير صدر لأهل الكتاب في سورة البقرة (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) فنهاهم الله وحذرهم في سورة البقرة, واستنكر عليهم في سورة آل عمران
- ثم يحذر الله المؤمنين من طائفة أخرى من أهل الكتاب, يظهرون غير ما يبطنون, ويحاولون إضلال أهل الكتاب, (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ..) وهذه وسيلة لتشكيك المؤمنين في عقيدتهم, بأن يروا أن ناسا يدخلون فيها ثم يحيدون عنها ويكفرون بها, لعلهم يرجعون, فيعلمنا الله كيف نصلح هذا فيهم: (.. قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ .. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وأيضا حذرنا الله في سورة البقرة من حقد بعض أهل الكتاب(مايود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم, والله يؤيد بنصره من يشاء والله واسع عليم, يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)
● تصحيح المعاملات
- ثم يبين الله شأن المعاملات مع أهل الكتاب, فالعقيدة لا تقتصر على القلوب, ولكن تؤثر على المعاملات بل تحكمها, , وبتصحيحها تنضبط المعاملات بين الناس: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)) فيصلح الله المعوج في معاملاته: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) ويفرق بين الناس حسب صدق وسلامة معاملاتهم, من الوفاء بالعهد, ومن التقوى, ويحذر الجميع من التلاعب بالعهود والأيْمان: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) أيا كانت عقيدتهم.
- كما يحذر من التلاعب بالكتاب وبما أنزل الله ومن الكذب عليه: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
- وينفي الله عمن آتاهم الكتاب والحكم والنبوة أن يكونوا ضالين مضلين للناس, خاصة عيسى ابن مريم عليه السلام الذي ظلمه بعض أهل الكتاب بادعائهم ألوهيته, وكذلك ينفي عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس لعبادته من دون الله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
والربانيون جمع ربـانـيّ الذي يربُّ الناس، وهو الذي يصلـح أمورهم ويربها، ويقوم بها, وهو الـجامع إلـى العلـم والفقه، البصرَ بـالسياسة والتدبـير، والقـيام بأمور الرعية، وما يصلـحهم فـي دنـياهم ودينهم. فمعنى الآية: ولكن يقول لهم: كونوا أيها الناس سادة الناس وقادتهم فـي أمر دينهم ودنـياهم، ربـانـيـين بتعلـيـمكم إياهم كتاب الله، وما فـيه من حلال وحرام، وفرض وندب، وسائر ما حواه من معانـي أمور دينهم، وبتلاوتكم إياه ودراستكموه .
- وينفي عنهم أن يأمروا الناس باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
- فالله سبحانه قد أخذ ميثاق النبيين لنصرة بعضهم بعضا, فكل نبي يأتي داعيا لنصرة من يليه من رسول, ولنصرة خاتمهم محمد صلّى الله عليهم أجمعين, وأشهدهم وشهد معهم على هذا الميثاق: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) فكلهم أنبياء الله بما آتاهم من كتاب وحكمة, وأخذ الله ميثاقهم بالإيمان بخاتم النبيين الرسل, وبنصرته, وأقروا وشهدوا, ودعوا قومهم إلى ذلك.
- وهذا هو دين الله الواحد وله أسلم كل عاقل في خلقه: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
- كما يأمر الله خاتم رسله وكل من تبعه بالحق, أن يؤمن بالله وبما أنزل عليه, وما أنزل على النبيين من قبله, دون تفرقة بين أحد منهم, فالجميع له مسلمون: (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
- وفي النهاية لن يقبل الله من الناس دينا غير الإسلام: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
ثم يبين الله سبحانه فئة قوم كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات, ثم فئة قوم كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا, ثم فئة قوم كفروا وماتوا وهم كفار - فإن بدأ قوم بالإيمان وشهدوا أن الرسول حق, وجاءهم البينات, ثم كفروا بعد ذلك, فلا ينتظرون أن يهديهم الله, فهو لا يهدي القوم الظالمين, بل عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)) ويمنحهم الله فرصة تغيير حالهم بالتوبة والإصلاح: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
- أما الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا, فلن تقبل توبتهم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
- وأما الذين كفروا وماتوا وهم كفار, فلا فرصة لهم مهما كانت الفدية: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
- إن ما سبق من تصحيح للعقائد بالبرهان والمنطق والهدوء ودون انفعالات عنيفة بين أهل الاعتقاد, يعتبر تمهيدا وإعدادا لهم قبل مبعث عيسى عليه السلام, وكل من يتأثر به فيصحح اعتقاده, ويتعامل على أسس العقيدة الصحيحة, فإنه يصل إلى البر, المبيّن في آية البر في سورة البقرة, والذي يحقق القول الجامع لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: (الدين المعاملة)؛ والوسيلة إليه هي الإنفاق في سبيل الله مما تحبون, أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون. (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)) فالإنفاق مما يحب الإنسان من المال وغيره, فيه مجاهدة للنفس وإبعادها عن حب المال حبا جما, وتحكمه, وشهواته, وما يحققه. فإن أنفق الإنسان مما يحب, فإن الله يرزقه البر والتقوى.
وخلاصة ما سبق؛ يصل إلى تصحيح العقيدة في عيسى عليه السلام, فمثله عند الله كمثل آدم خلقه الله من تراب, وتصحيح العقيدة في الله, بعبادته وحده, وعدم اتخاذ أرباب من دون الله, وفي إبراهيم عليه السلام الذي كان حنيفا مسلما ولم يك من المشركين, وفي عدم إلباس الحق بالباطل وكتمان الحق, وفيما ينتج عن ذلك من ضبط للمعاملات والمواثيق والعهود المبنية على العقيدة الصحيحة, وفي عدم ليّ الألسنة بالكتاب وتحريفه, وفي صدق وأمانة من كلفهم الله بالكتاب والحكم والنبوة, وعدم ادعائهم الألوهية من دون الله, وفي مناصرتهم لرسول الله الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام, وفي دين الله الإسلام وعدم ابتغاء غيره دينا, وفي الإيمان بالله وما أنزل على أنبيائه ورسله, وعدم التفريق بين أحد منهم, وفي الإسلام لله, والعمل على أن ننال البر, بالإنفاق مما نحب, وفي كل ذلك جمع لطوائف الذين أوتوا الكتاب, وتقريب بينهم, ودعوتهم للسلوك القويم, وأعمال البر في المعاملات.
ومن لم يهتد بعد كل ذلك, فكيف يهديه الله إلا أن يتوب فيتوب الله عليه؟
فإن لم يتب, بل ازداد كفرا, فكيف يقبل الله توبة ممن كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا؟
فإن لم يكفوا عن الكفر, حتى ماتوا وهم كفار, فلن يقبل الله شفاعة منهم أو لهم.
وحين يذكر الله ذلك, فهو يتيح الفرصة لمن لم يمت بعد, أن يتراجع عن كفره, حتى يتوب فيتوب الله عليه. إن في ذلك لرحمة لمن يستحقها.
ثانيا: تصحيح الشريعة والمعاملات:
- فإن تم تصحيح العقيدة, فإن ما يتلو ذلك هو تصحيح الشريعة, فالله وحده هو الذي يشرّع الحلال والحرام للناس, وما كان من نبي الله يعقوب – إسرائيل- من أنه حرّم على نفسه بعض الطعام, فإنما كان ذلك على نفسه فقط, (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)). ولا ينبغي أن يعمم ذلك على الناس, فالتوراة كتاب الله لبني إسرائيل عليهم أن يتبعوا ما فيه من شريعة يحل الله بها ويحرّم, (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94))
وفي إطار تقريب الذين أوتوا الكتاب, فإن أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام هو أصل الفرعين, فرع إسماعيل ومنه محمد, وفرع إسحاق ويعقوب (إسرائيل) ومنهم بقية الرسل والأنبياء من بعدهم, عليهم جميعا السلام. وإبراهيم رفع القواعد من البيت في مكة, وهذه حقيقة تاريخية ينبغي ألا ينكرها كل أهل الكتاب, ويكون بذلك إبراهيم عليه السلام عاملا للتقريب, والملة الصافية الحنيفية.
- والصحيح أن نميل إلى الحق, ملة إبراهيم حنيفا, ولا نشرك مع الله أحدا في عقيدتنا ولا في شريعتنا (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) )
- جمّع الله الناس جميعا على بيته الحرام, فهو أول بيت وضع للناس, مباركا وهدى للعالمين, يتخطف الناس من حوله, وهو آمن, والآيات أفهم منها أنها تشير إلى أن بيت الله الحرام بمكة هو للناس أجمعين, وعلى من استطاع إليه سبيلا أن يحجه, وعلى من لم يستطع أن يتمنى ذلك, ومن كفر وأنكر ورفض دعوة الله فقد كفر, والله غني عن العالمين. (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
ومن لم يؤمن بعد كل تلك البينات, فإنه قد أبعد نفسه عن الهداية, فيبعده الله عنه, فبعد أن كانت الرسالة موجهة مباشرة من الله لأهل الكتاب (يا أهل الكتاب …) تبدأ الآن أن توجه بشكل غير مباشر بكلمة (قل) (قل يا أهل الكتاب..) وأما من لم يهتد منهم, فإنه يحتمل أن يكون مصدر عداء للذين آمنوا. - فبعد كل تلك الإيضاحات, فإن الله يستنكر على أهل الكتاب أن يكفروا بآيات الله (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
- كما يستنكر عليهم أن يصدوا عن سبيل الله من آمن يبغونها عوجا بعد أن أصلح الله العقيدة وبين الحق فيما اختلف الناس فيه (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) وكان ينبغي عليهم أن يكونوا دعاة لله يعملون على هداية الناس لا أن يصدوا عن سبيل الله.
وإلى هنا, يتمم الله تصحيح العقيدة وبناء عليها ينبه أن الشريعة هي من الله وحده, لا شريك له, ويجمع بين أهل الكتاب والناس أجمعين والعالمين في توجههم لأول بيت وضع للناس, ويحذّر أهل الكتاب من الكفر بآيات الله والصد عن سبيله يبغونها عوجا.
ثالثا: تأسيس خير أمة, والتحذير من الأعداء الظاهرين والباطنين:
بعد دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء, والنصح لهم, فإنه يؤمن منهم من يؤمن, ويستمر من يستمر على حاله, هنا يجمع الله كل من شهد ألا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله, فيؤسس بهم خير أمة أخرجت للناس, أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
- فبعد أن أصرّ فريق من أهل الكتاب على موقفهم ولم يقبلوا تصحيح الله لما انحرف من عقيدتهم, وإذا لم يلتزموا بشريعته, فإن الله يحافظ على الذين آمنوا ويحذرهم من أن يطيعوا هؤلاء المضلين, فيردوهم بعد إيمانهم كافرين, بعد أن أنزل الله لهم آياته وفيهم رسوله.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
- ويدعو الله الذين آمنوا جميعا (بمن فيهم من يستجيب لدعوة الله من أهل الكتاب) للتسليم له وتقواه, والاعتصام بحبله, وعدم التفرق على الحق, ويؤهلهم الله كخلائف في الأرض, والقيام بدورهم بالدعوة إلى الخير, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, حاملين لمسئولياتهم كورثة للكتاب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
- فإن استجاب الذين آمنوا لدعوة الله, وحملوا مسئولياتهم, فإنهم يكونون خير أمة أخرجت للناس, يمكنهم الله الذي إليه ترجع الأمور: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ..) وفي نفس الوقت يشير الله إلى أهل الكتاب أنهم كان يمكنهم أن يشاركوا في هذا الفضل لو آمنوا (.. وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
- فإن لم يحدث تفاهم واتحاد بين جميع الذين يؤمنون بآيات الله, بين كل من اختصهم الله بإرسال رسله وتنزيل كتبه, بين كل أهل الكتاب, فإنه ستحدث مواجهات وتصعيد, وفي هذه الحالة, فإن الله يبشر الذين آمنوا ويطمئنهم أنهم منصورون, ولن ينالهم من الذين كفروا من أهل الكتاب إلا أذى, بل إن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة, وباءوا بغضب من الله بسبب سوء أعمالهم (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
- إلا أن الله سبحانه, يحفظ للصالحين من أهل الكتاب حقهم وما يفعلوا من خير فلن يكفروه: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
- ومن تبقى بعد ذلك من الذين كفروا المحاربين الموجهين جهودهم وأموالهم للصد عن سبيل الله يبغونها عوجا, فإن الله خاذلهم وأولئك أصحاب النار(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) وما ينفقونه يهلك الحرث ولا ينفعهم ولا ينفع غيرهم.
- وهناك طابور خامس, يدّعون الولاء للذين آمنوا, وهم منافقون مبغضون, هذه فئة خطيرة مندسّة في مجتمع الذين آمنوا, يطمئنون لهم, بل ويتخذونهم بطانة, وهم من دون المؤمنين, ولهم صفات وعلامات ويحذّر الله منهم:
1) فهم يتخذهم المؤمنون بطانة, أي أنهم قريبون جدا منهم, يستأمنونهم على أسرارهم وأنفسهم وأموالهم, ولكنهم من دونكم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ
2) لا يتوانون في الإفساد (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ..)
3) يتمنون الضرر (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ..)
4) يبدون الكراهية بالغيبة والنميمة وإفشاء الأسرار للأعداء والشامتين (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ..)
5) يبطنون أسوأ مما يظهرون وأكبر(وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ..)
6) وبعد بيان الله لنا, فإن من العقل أن نحذرهم (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
7) إنهم في وضع محبة من الذين آمنوا, وهذه هي الخطورة. فيصعب تغيير هذه المشاعر, ولكن الله ينبه إلى خطورتهم (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُم)
8) والمؤمنون يؤمنون بالكتاب كله, ولكن هؤلاء البطانة لا يؤمنون بكتابنا (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ..)
9) ويستمرون في الخديعة (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا.. وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ..)
10) ويكون الرد عليهم: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
11) والبطانة من دون المؤمنين لديهم مشاعر معادية (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا
12) (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)).
فهم قد بدت البغضاء من أفواههم, إذن يظهرون في كلامهم وتعليقاتهم, يبدو منهم البغض وتمني العنت للذين آمنوا, يحبهم المؤمنون, رغم أنهم لا يبادلونهم المشاعر بالحب, وأمام المؤمنين يقولون آمنا, وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ, والواجب الرد عليهم (قل موتوا بغيظكم, إن الله عليم بذات الصدور) يستاءون لحسنة تمس الذين آمنوا, ويفرحوا لسيئة تصيبهم, وعلاج ذلك الصبر والتقوى, فلا يضرنا كيدهم شيئا.
رابعا: الاستعداد للمواجهة العسكرية:
بعد المحاولات للتقريب مع الذين أوتوا الكتاب, ثم التحذير ممن لم يستجيبوا لدعوة الإسلام, ثم وجود فئة المنافقين والتحذير منهم, فإن على المؤمنين أن يستعدوا لقتال من لم يستجيبوا وظلوا على معاداتهم فالخلاف قد يتصاعد إلى مستوى القتال:
- (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
- ثم يضرب الله مثلا بما حدث في غزوة بدر, وما يمكن أن يتكرر بإذن الله. تفوق في العدد لصالح جيش المشركين, وضعف في استعدادات المؤمنين, ولكن الله يطمئن ويبشر المؤمنين أثناء القتال, بأن يمدهم بالآلاف من الملائكة, إلا أن هذا المدد مجرد بشرى لهم, ولتطمئن قلوبهم به, ولكن النصر من عند الله العزيز الحكيم, والهدف ليقطع طرفا من الذين كفروا. إن المعركة والمواجهة أصلا هي بين الحق والباطل, ومن يقاتل في جانب الحق ودفاعا عن دينه, فإن الله يستعمله سببا في كبت الذين كفروا فينقلبوا خائبين. )وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
- ولا تكون نتيجة الحرب هدفا للمؤمنين, إنهم فقط يؤدون ما عليهم, ويتركون الأمر لله, أو يتوب على الكافرين أو يعذبهم, فله ما في السماوات وما في الأرض يغفر ويعذب كيف يشاء (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) فالعداوة والمقاتلة للكفر نفسه.
خامسا: تجهيز الجبهة الداخلية:
وقبل الدخول في الحرب, يتم تجهيز الجبهة الداخلية, حتى تكون متماسكة أثناء القتال, متصالحة مع الله ورسوله, مع الناس, مع النفس:
- المصالحة مع الله ورسوله, وعدم استعدائه, بترك أكل الربا, الذي يأذن المتعاملون فيه بحرب من الله ورسوله, و يثير الضغائن بين الناس, والمصالحة بتقوى الله, وبطاعته وطاعة رسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
- المصالحة مع الناس بالإحسان في المعاملات من التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء, وكظم الغيظ والعفو (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
- المصالحة مع النفس بالاستغفار والتوبة(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
ومن لم يفعل تلك الخطوات الثلاثة, فمصيره مثل مصير من سبقه من المكذبين, فتلك من سنن الله, ومن اتعظ واتبع, فإن هذا البيان يكون هدى وموعظة له: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
سادسا: التأهيل النفسي والإيماني للقتال:
- وعد مشروط من الله, بالعلوّ مع الإيمان: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
- تثبيت أمام ما سيلقاه المقاتلون, من قرح, ومن شهادة: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
- تثبيت أمام احتمال موت النبي أو قتله, أوالقادة من بعده: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
- الموعظة بمن قاتل مع الأنبياء, والاستعانة بالله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
سابعا: معركة الفرقان:
إن مسئولية تبيين كتاب الله للناس تقع على عاتق هذه الأمة, خير أمة أخرجت للناس, أمة خاتم النبيين. وهي في سبيلها لتنفيذ ذلك, ستواجه بالجهل وبالصد, فالمرء عدو ما يجهل, والذي يبدأ بالمواجهات الفكرية بين الحق والباطل بمحاولات التأثير على المؤمنين (أرأيت الذي ينهى* عبدا إذا صلّى), ولكنها حتما ستصل إلى القتال, كقمة للصدام, (فليدع ناديه, سندع الزبانية) وفي قمته يصل إلى معركة فاصلة بعد نزول عيسى عليه السلام, وهو يوم لا ريب فيه عند المؤمنين. والله سبحانه ناصر جنده ليحق الحق ويبطل الباطل, وليكون الدين كله لله, وبصرف النظر عن قلة أو كثرة المؤمنين بالنسبة لأعدائهم, وقد كانت غزوة بدر تعبيرا عن نصر الله لفئة قليلة مؤمنة تقاتل في سبيل الله, على فئة كثيرة كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت, على أن يكون هدف المؤمنين من القتال, أن تكون كلمة الله هي العليا, وأن يتبعوا ما أنزل الله لهم من خطوات واستعدادات, وفي النهاية فإن النصر من عند الله. وفي الآيات التالية تتضح هذه المعاني:
- الاعتماد على الله وحده, والولاية لله, وطلب النصر منه, وتحذير من طاعة الذين كفروا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
- الرعب سلاح لا يقدر عليه إلا الله وحده: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
- عفو الله وفضله ينقذ من الفشل: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
- الأمر كله لله, وأمنة الله تنقذ من الغم: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
- عفو الله ينقذ من زلل الشيطان بالتولي يوم الزحف: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
- مغفرة الله ورحمته خير مما يجمعون, وتنقذ من دعاوى الجبن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
- القائد يلين لجنده فيلتفون حوله, ويشاورهم ثم يتوكل على الله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
- المؤمنون يتوكلون على الله, فالنصر من عنده: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
- القيادة لا تغلل, بل تتبع رضوان الله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
- اتباع الرسول سلاح المؤمنين, من منّة الله عليهم: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
- المصائب من عند أنفسنا, وهي ابتلاء لبيان الذين نافقوا ودعاة القعود: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
- القتل في سبيل الله أمنية المؤمنين: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
- الاستجابة لله والرسول سلاح الثبات: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
- الشيطان يخوف أولياءه: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
- لا نحزن من الذين يسارعون في الكفر: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
- الابتلاءات ليميز الله الخبيث من الطيب: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
- ترك البخل إلى الإنفاق سلاح الإيمان: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
- حين يأمرنا الله بالإنفاق, فذلك من كرم الله, وغناه, حيث يرزق بعضنا ببعض, ويثيب المنفقين, ولله ميراث السماوات والأرض, فلن يأخذ أحد معه مالا ولا شيئا إلى القبر, فلماذا البخل إذن؟ إلا أن بعض الجهال يعتقد ويقول إن الله فقير, حيث يطلب منا الإنفاق مما آتانا من فضله, فيسجل الله ذلك عليهم. كما يسجل عليهم تصديقهم وموافقتهم على ما فعله أسلافهم من قتل الأنبياء بغير حق, فالتصديق على فعل كالمشاركة فيه, فينسب الله سبحانه إلى اليهود في عصر النبوة, أنهم قتلوا الأنبياء, مع أن الذي فعل ذلك هم أسلافهم القدامى, ولكن تصديق اليهود في عصر النبوة يعتبر مشاركة في قتل الأنبياء. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من حضرها فأنكرها كمن غاب عنها, ومن غاب عنها فرضيها كمن حضرها. (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184))
- وحتى ينتهي الشعور بالرهبة من القتال في معركة الفرقان, فإن الله سبحانه يذكرنا بالحقيقة التي لا يمكن أن ينكرها أحد، حقيقة الموت والبعث والحساب(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ…), ثم الثواب والعقاب (.. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ..) وتقليل شأن الحياة الدنيا (.. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) وهذا هو الفرقان الأخير, إما إلى جنة, وإما إلى نار.
- يهيئنا الله لما سنتعرض له, ويتعرض له كل إنسان يقف موقف الحق, ويدافع عنه, ويحمل راية العدل, ويعمل على تبليغ كلمة الله للناس, فلابد أنه ملاق بلاء شديدا في نفسه وفي ماله, (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ..) ولابد أنه سامع ممن سبقوه في مسئولية الكتاب ومن الذين أشركوا أذى كثيرا (.. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ..) ولكن الحل يبدأ من عنده في مواجهة هذا البلاء والأذى, بالصبر والتقوى فإن ذلك من عزم الأمور(.. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
- وقد قصّر الذين أوتوا الكتاب من قبل في مسئولياتهم التي كلفهم الله بها وأخذ ميثاقهم, فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) فلا ينبغي أن يكون هذا هو سلوك المؤمنين أتباع رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم, حيث هم الأمة المستمرة إلى يوم القيامة, وغير مقبول ولا معقول أن تقصر هذه الأمة أيضا, فمن إذا سيبين للناس كتاب الله ومراد الله منهم؟ لو أنهم كتموه أو نبذوه وراء ظهورهم؟ إنها لمسئولية جسيمة لأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل هم أتباع كل رسل الله, وحملة مسئولية كتابه (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) ولو قصر بعضهم وظلم نفسه, ولو اقتصد البعض الآخر على نفسه وخاصة أهله, فإن هناك من الأمة سابقون بالخيرات بإذن الله, (فمنهم ظالم لنفسه, ومنهم مقتصد, ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله, ذلك هو الفضل الكبير) نسأل الله أن يجعلنا ممن كلفهم بمسئولية كتابه وبيانه للناس والعمل به وعدم كتمانه, فقاموا بتلك المسئوليات على الوجه الذي يرضي ربهم سبحانه وتعالى, آمين.
- كما نسأله سبحانه ألا يجعلنا ممن يفرحون بما أتوا, ويظنون أن مجرد انتسابهم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, فضل لهم, ثم هم يقصرون في حمل الأمانة, ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)) فالله سبحانه هو الغني عن العالمين, (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) ولكنه جل شأنه يمنح عباده فرصة الفوز بشرف حمل مسئولية كتابه, وتبيينه للناس وعدم كتمانه, وهو القادر على بيانه وحده لا شريك له, نسأل الله أن يجعلنا جميعا أهلا لهذا الشرف وهذه المسئولية, آمين