سورة فاطر, أو سورة الملائكة.. يعرفنا الله فيها على دور الملائكة في حياتنا, وعلاقتها بنا وبأعمالنا في الدنيا, بكونها رسلا بين الله وبين عباده.
فبعد أن فطر الله السموات والأرض في مبدأ الخلق, فتتحرك بها مخلوقات الله في الدنيا كلها بما ينفع الناس ويقيم حياتهم المادية والمعنوية, فيطوّر الله الدنيا بمن جعلهم الله خلفاءه في الأرض.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)
ومعنى فاطر السماوات والأرض: أي الذي ابتدأها من العدم, فخلق كل شيء فيها, وأبدعه دون وجود مثيل له من قبل, وأعدّه وجهّزه, وجعل له الأمر أو النظام الذي يحركه ذاتيا, وجعل النظام الذي يربطه بكل ما سواه من الأشياء والمخلوقات, فتم بذلك خلق السماوات والأرض بكل ما فيها من النعم وكل ما خلق الله من شيء, وما أودع فيها من أمر, تسير به الحياة المهيأة للخلق. وفور أن أتم تجهيزها وإعدادها, شقها بشق طولي على الخط الفاصل بينهما (حيث كلمة فاطر تدل أيضا على الشق طوليا), ففتق به السماوات عن الأرض, وأبرزها فجأة لحيّز الرؤية والاطلاع والمشاهدة, وهي تامّة التجهيز, وقبل أن يبدأ تفاعل الخلق فيها فيما بينهم, وقبل أن يدركها أي تغيير.
ولنضرب مثالا على ذلك: فالله سبحانه خلق الأشجار بأشكالها المتعددة دون سابق مثل لها, وجعل لها النظام الداخلي الذي به تنمو وتستمد الماء والغذاء من التربة, والأكسجين وثاني أكسيد الكربون والرطوبة من الهواء, وتتفاعل مع ضوء الشمس وحركة الهواء. فجعل لها النظام الخارجي الذي به تتفاعل مع كل ما حولها من خلق الله, الذي خلقه هو الآخردون مثال سابق, شكلا وقانونا ونظاما للحركة والحياة, ثم إنه جعل كل شيء في وقت واحد جاهزا للخروج إلى حيز الوجود.
وبعد أن خلق الله السماوات وما فيها من نجوم وكواكب وأقمار, وما فيها من ريح وسحاب وماء, وخلق الأرض وما عليها من جبال وبحار وصحراء وزرع وما يدب عليها من دوابّ, وجعل لكل ذلك القوانين التي تربط بينها جميعا, فالإنسان له علاقة بالبحر والرياح والسحاب والزرع والطيور والحيوانات والحشرات والنجوم والكواكب والأقمار, وكذلك لكل خلق من خلق الله علاقات بغيره من الخلق, وهذه المخلوقات وقوانينها وأوامرها المنظمة هي من الله بصفته فاطر السماوات والأرض. ألا له الخلق والأمر, تبارك الله ربّ العالمين.
فماذا يبقى بعد ذلك لكي تسير الدنيا كما يريد الله لها؟
هل ظلت الدنيا على نفس الحال التي فطرها الله عليها؟ أم أنها تغيرت فيها أشياء؟ وكيف تغيرت؟ وكيف غيرها الله؟
ما هي الإضافات التي يمكن أن تضاف إلى ما فطر الله عليه السماوات والأرض؟
ما هو دور الإنسان في هذه الحياة بعد أن أبدعها الله وجعل القوانين المنظّمة لها؟ وكيف يؤدي هذا الدور؟
إن الله سبحانه يقول في سورة يونس:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(24)
إذن هناك تطور يحدث ويستمر في خط صاعد يبدأ بما فطر الله عليه السماوات والأرض, عند بدء الخلق, مثل ماء أنزله الله من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام, وهذه كلها من أفعال الله وحده لا شريك له, لا دخل للإنسان فيها.
ثم يصل التطور إلى كمال الزخرف والزينة للأرض وما عليها من أشياء, وإلى أن يظن أهلها أنهم قادرون عليها, أي يتطور الإنسان إداريا وعلميا إلى الحد الذي يجعله يظن أنه قادر على الأرض, وذلك بعد أن تأخذ الأرض زخرفها وتتزين, والذي يزينها هو الله, بواسطة خلفائه في الأرض, بني آدم, الذين سلمهم الله الأرض على ما فطرها عليه, وجعل الملائكة رسلا بينه وبينهم, يوحي بهم الله إلى بني آدم, وأعلاهم الأنبياء والمرسلون, بأعلى الوحي وهو كلام الله سبحانه وكتبه ورسالاته, وبأعلى الملائكة وهو جبريل الروح الأمين, ويوحي بملائكته إلى عموم خلقه, بإيعاد بالخير وتصديق بالحق.
إن الأرض تطورت بما يبني الإنسان عليها من مبان, وما يشق فيها من طرق وقنوات وجسور وسدود, وما يزرع من نبات,
والزرع تطور ويتطور في المساحة وفي النوعية, بما يفعل الإنسان فيه من الإعداد والطبخ والصناعة والحفظ.
والجبال تطورت بما يأخذ الإنسان منها فيبني أو يصنع أو يزرع, وما يشق فيها من طرق وأنفاق.
والبحار تطورت بما يبني الإنسان فوقها من فلك وسفن وما عليها من آلات وبضائع, وما يستخرج منها من حلية وأسماك وأملاح, وما ينقي من مائها فيشرب ويروي زرعه وضرعه
والمواد تطورت بما صنع الإنسان بها ومنها من مخترعات ومنتجات.
والسماء تطورت بما يدير الإنسان فيها من طائرات وأقمار صناعية وصواريخ وما يبث فيها من موجات واتصالات, وما يفسد من هوائها وبيئتها.
وسوف يستمر هذا التطوير إلى يوم القيامة, حيث تكون الأرض قد أخذت زخرفها وازينت, وظن أهلها أنهم قادرون عليها, فيجعلها الله حصيدا كأن لم تغن بالأمس, أي حين ينتهي التطوير والابتكار, ويتوقف سعي الإنسان عندما يظنّ أنه في قمة القدرة عليها, فلا داعي لوجوده على الأرض, ولا داعي لوجود الأرض نفسها.
إذن بعد أن فطر الله السماوات والأرض وما بينهما, حدث تطور ويحدث كل يوم. فكيف يحدث هذا؟ وما هو النظام الذي يُحدث الله به هذا التطور؟
إن فاطر السماوات والأرض, هو أيضا جاعل الملائكة رسلا, بينه وبين الناس, فيرسلهم بوحيه, يوحون إليهم فعل الخيرات فيبدأون لهم الفكرة والإيحاء, الذي يأخذ به الناشطون من الناس والباحثون عن كل تطور وجديد, والساعون لامتلاك القدرة, والعاملون إصلاحا في الأرض وتطويرا, وابتكارا, فيستخرج الله بهم الخبء في السماوات والأرض, من نعم وأسرار ومواد وموجات وأفكار وإمكانات.
ونحن نعلم ونؤمن أن الله جاعل الملائكة رسلا:
● يرسلهم بالوحي إلى رسله وأنبيائه,
● يرسلهم يتنزلون في ليلة القدر بإذن ربهم من كل أمر,
● يرسلهم إلى سائر عباده بنعمه أو بنقمه.
● يرسلهم حافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون
● يرسلهم لإهلاك الظالمين: (من قوم لوط وأمثالهم)
● يرسلهم لقبض الروح (ملك الموت- عزرائيل)
● يرسلهم بلمّة الملك بالإيعاد بالخير والتصديق بالحق,
● يرسلهم بالرؤيا الصالحة ( آخر ما تبقي من الوحي)
● يرسلهم بالبشرى(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا, تتنزّل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة, ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون. نزلا من غفور رحيم),
● (ينزّل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون)
● يرسلهم مددا ليؤيدوا الذين آمنوا في قتالهم مع أعداء الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)
● يرسلهم ليثبتوا الذين آمنوا (إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ..)
● يرسلهم ليضربوا فوق أعناق الذين كفروا(سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَـاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)
لقد بدأ الله سبحانه بأن فطر السماوات والأرض, وجهّز كل منابعها وخيراتها: ثم جعل في الأرض خليفة: يقول سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29)
فكانت الأرض والسماوات وما فيها من المنابع لكل خير, وإنما ظلت هذه المنابع كما فطرها الله عليها…فإن تطورت فبفعل الله وحده لا شريك له, دون تدخّل من خليفته في الأرض, فتزيد الغابات وتنقص, وتفيض البحار وتغيض, وتزلزل الجبال وتثور براكينها, وترسل الرياح فتثير سحابا.
ثم جعل الله في الأرض خليفة, هو الإنسان, آدم وبنوه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30)وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32)قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(33)
وأعلم سبحانه ملائكته بذلك, فلما قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك, قال إني أعلم ما لا تعلمون.
إن خليفة الله في الأرض لا يُكتفى منه بالتسبيح بحمد الله وبالتقديس له, وإنما هو يتطور ويطوِّر, وغيره من الخلق لا يفعلون ذلك.
وأتصوّر, والله أعلم, أن الله سبحانه حين علّم آدم الأسماء كلها, فإنه علمه أسماء كل إنسان سوف يطوّر شيئا في الدنيا, يتميز بذلك عن سائر الخلق, عن الجمادات, وعن الحشرات والحيوانات, عن النبات, عن الجن, عن الملائكة, لقد فضله الله سبحانه على كثير ممن خلق تفضيلا.
لقد علّم الله آدم الأسماء كلها.
وعلّم ابن آدم بأن بعث غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه.
وعلّم نوحا كيف يصنع الفلك بأعين الله ووحيه, فيجتاز بها العوائق المائية, وينتقل بها من مكان إلى مكان بنفسه وما يحمل فيها.
وعلّم عادا قوم هود البناء بكل ريع, واتخاذ المصانع.
وعلّم ثمود- قوم صالح- أن يتخذوا من سهولها قصورا, وينحتون من الجبال بيوتا, وعلّمهم استئناس الحيوانات.
وعلّم مدين قوم شعيب الكيل والميزان وعلم بهم الناس من بعدهم.
وعلّم يوسف التخطيط والحفظ للمحاصيل الزراعية وأصول الحكم.
وعلّم داوود قواعد القضاء والحكم بالحق, وعلم به الحكام والقضاة من بعده, كما علمه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم.
وعلّم سليمان منطق الطير وبناء صرح ممرد من قوارير, وأسال له عين القطر. كما سخّر له الجنّ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات, بأمر سليمان ومشيئته.
وعلّم الذي عنده علم من الكتاب من ملئه أن يأتي بعرش من مسافات بعيدة قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه.
كما علّمه كيف يختبر الصافنات الجياد مسحا بالسوق والأعناق.
وعلّم أيوب علاج حالته بأن يركض برجله, ويستعمل المغتسل البارد والشراب, وأن يأخذ بيده ضغثا فيضرب به ولا يحنث.
وعلّم الله موسى بأن كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء.
وعلّم عيسى كيف يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله.
وعلّم ذا القرنين إدارة قوم لا يكادون يفقهون قولا, فبنوا ردما من زبر الحديد والقطر بإشرافه وتوجيهاته, فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا.
وعلّم محمدا صلّى الله عليه وعلى رسله وأنبيائه وسلّم, كل ذلك فقال له (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ), وجعله سبحانه على شريعة من الأمر فاتبعَها, وعلمه فنون المعاملات مع الناس في الشدة والرخاء, وفي السلم والحرب, وفي النصر والهزيمة, وفي الفقر والغنى
وعلّم أمته من بعده كل هذا, بما أودع في كتابه العزيز وضرب للناس فيه من كل مثل, يدل به الناس على نعمه وأسرار خلقه وما فيه من خبء ولعلهم يشكرون.
فعّلم ابن حيان الكيمياء
وعلّم ابن الهيثم الضوء
وعلّم المجتهدين الباحثين الذين أوتوا العلم من بني آدم …
فعلّم نيوتن قانون الجاذبية,
وعلّم أينشتاين النسبية
وعلّم أرشميدس قانون الطفو
وعلّم مندل قوانين الوراثة في النبات
وعلّم زويل علوم الليزر
وعلّم المرأة الماهرة طهو الطعام وصناعة الحلوى وحياكة الملابس.
وعلّمني وعلّمكم كل في مهنته وتخصصه
سبحانه وتعالى, علّم الإنسان ما لم يعلم
كان كل ذلك بوحي من الله, إما بجبريل لأنبيائه ورسله, أو بالملائكة رسلا بينه وبين سائر خلقه.
فالحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع.
كل ذلك مما جعل الله به الملائكة رسلا بينه وبين الناس, يوحي الله بهم إلى الناس إيحاءات يبتكرون بها ويبنون بها ويكتشفون بها أسرار كون الله وخلقه.
يفهم هذا من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما معناه: للقلب لمَتان, لمّة الملك إيعاد بالخير تصديق بالحق, فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله, ولمّة العدوّ, إيعاد بالشرّ تكذيب بالحق, فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الشيطان, وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم, (أو كما قال عليه الصلاة والسلام) .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثُمَّ قَرَأَ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ الْآيَةَ
فكما يوسوس الشيطان للإنسان إيعادا بالشر تكذيبا بالحق, فإن الملائكة يلهمه الله بها إيعادا بالخير تصديقا بالحق.
يكون ذلك حسب حال الإنسان, وحسب انفعاله بما يتلقّى من وسوسة, أو من إلهام.
فالذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.
والذي يجتهد وينظر ويتفكر في آيات الله الكونية, أو في آيات الله القرآنية, أو فيهما معا, يرسل الله إليه الملائكة بإيحاءات وإلهامات إيعادا بالخير تصديقا بالحق.
فكم من المليارات من التفاح سقطت على رءوس ناس وأمامهم قبل نيوتن, وكم من مظاهر الطفو حدثت قبل أرشميدس أمام ناس, ولكن الذي يتفكر وينظر في ملكوت السماوات والأرض وآيات الله الكونية, يرسل الله إليه الملائكة رسلا يوحون إليه بالخير, فيتتبعه ويستمر في تفكُّره وبحثه إلى أن يخرج الله به الخبء في السماوات والأرض, والخبء في قدرات العقل والقلب.
أما الذين يقضون نهارهم لعبا, وليلهم لهوا, فلا وحي لهم ولا إلهام, وإنما وسوسة وإغراءات,{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ(105)}يوسف
يقول سبحانه: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(9)
الحمد لله على عطاءاته, يزيد في الخلق ما يشاء, إن الله على كل شيء قدير..
الله فاطر السموات والأرض, خلقها وما فيها ومن فيها, وأمر كل هذا بأمره الذي نظّم العلاقات بينها, وجعل الملائكة رسلا بينه وبين الناس, فربط الناس وأعمالهم وأفعالهم بالسماوات والأرض وما فيها, فيكتمل بذلك نظام الكون: مخلوقات بينها علاقات يعيش فيها إنسان يستخلفه الله في الأرض, فيجعل له الملائكة رسلا بأمره, فيطيع ربّه فيتوافق مع سائر خلق الله وقوانينه وأوامره ونظامه, أو يعصي فيصطدم معها. ويجتهد ويبحث ويتفكّر في آياته الكونية وآياته القرآنية, فيريه الله ملكوت السماوات والأرض, أو يغفل وينام ويلهو ويلعب, فيتبعه الشيطان فيكون من الغاوين.
وبعد استقرار هذا النظام, فإنه أهون على الله سبحانه أن (يزيد في الخلق ما يشاء), سائرا على نفس النظام, (إن الله على كل شيء قدير).
ولله الحمد من قبل ومن بعد.
وحيث أن الله فاطر السموات والأرض, قد جهّز كل شيء فيها منذ الأزل, ونظّّّم حركته بقوانين حتمية وسنن لا تغيير فيها, فإننا نستنتج من هذا أنه حين يفتح الله للناس من رحمة, فإنه يفتحها بأمر سبق الإعداد له, وسبق خلق كل ما يتعلق به, وسبق الأمر الذي به يتحرك كل شيء نحو تنفيذ رحمة الله سبحانه, فلا ممسك لها.
وكذلك فإن ما يمسك سبحانه, فلا مرسل له من بعده, فالخلق الذي يشارك ويتداخل في تنفيذ أمر, لا سيطرة لواحد من الناس عليه, والأمر من سنن الله وقوانينه لا سيطرة ولا تحكّم لأحد فيها, إلاّ المهيمن على خلقه وأمره جلّ وعلا وتبارك اسمه, إذن (وما يمسك, فلا مرسل له من بعده…)
وإنما هو سبحانه يفعل ذلك بعزّة لا غالب لها, وبحكمة لا إفراط فيها ولا تفريط.
مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)
وحركات الإنسان وسعيه واختلاف تصرفاته وتنوعها, تكون ضمن ما أعدّه الله ورتّب النتائج عليه, بكل احتمالات تصرفات الإنسان. وبالتالي فإن نتيجة كل تصرف من تصرفاته, ينتج عنه نتائج سبق الإعداد لها من الخلق والأمر الذي فطره الله…. ولن تجد لسنّة الله تبديلا.
وسوف يفصّل ذلك في أمثلة متعددة ضربها الله في سورة فاطر…
إن الله فاطر السموات والأرض, وما حَوَت من العالمين والحياة كلها, قد فتح بذلك للناس من رحمته من الخيرات المادية التي قامت عليها حياة الناس, ومن الرزق, ومن الخيرات الروحية والنفسية التي بها يتعايش الناس.
والله جاعل الملائكة رسلا, قد فتح بذلك للناس من رحمته أبواب الوحي وما نزل به من أمر الله والهداية والخير والروح التي فيها وبها حياتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
ولم يكن للسماوات أو للأرض أو للناس أو للملائكة أو لغيرهم من الخلق دخْل في ذلك ولا خيار, فلا ممسك للرحمة إذا فتحها الله.
أين كان الناس حين فطر الله السموات والأرض؟
وأين كانوا حين جعل الله الملائكة رسلا بالهداية إليهم؟
وهل كان للملائكة خيار في زيادة الله في أجنحتهم مثنى وثلاث ورباع؟
وهل للناس خيار فيما يزيد الله في خلقهم أوينقص بما يشاء سبحانه؟
وهل للناس يد فيما يمسك الله؟ هل يستطيع أحد أن يرسل ما يمسك الله؟
وما يمسك فلا مرسل له من بعده, وهو العزيز الحكيم.
إن قدراته سبحانه في تحقيق ما يشاء وفي المنح والمنع لا يقف أمامها أحد ولا يستطيع شيء أن يغير من إرادته ومشيئته, فهو العزيز الغالب على أمره, المالك لكل أسباب الغلبة والنصرة والقوة. وفي نفس الوقت, فإن أفعاله كلها بحكمة فهو الحكيم, فتكون عزّته وحكمته نصرة للحق.
حين يدرك الناس تلك المعاني, فإنهم لن يلجأوا في حاجاتهم إلا لله, ابتغاء رحمته, وابتغاء العزة, ولن يأسوا على ما فاتهم لأنه تم بحكمة. ولا مبدل لكلمات الله ولا مغير لمشيئة الله, ولكن التسليم الكامل لما أعطى ولما منع ولما فتح من رحمته ولما أمسك فلا مرسل له من بعده, وهو العزيز الحكيم.
ولهذا فقد علمنا رسولنا صلّى الله عليه وسلم: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت.
يا أيها الناس:
بعد هذا التثبيت لقواعد العقيدة, يتوجه نداء الله للناس مؤمنهم وكافرهم في كل زمان ومكان, بنداءات ثلاثة:
- يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُون َ(3)
إن من يعلم أن الله فاطر السموات والأرض, جاعل الملائكة رسلا, ويعلم أنه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها, وما يمسك فلا مرسل له من بعده, وأنه هو العزيز الحكيم, يوقن أنه ليس من خالق غير الله يرزق من السماء والأرض. فمن يستطيع التنسيق بين كل خلق الله حتى يتحقق وصول نعمة الله إلى يدك؟
ولنمشِ مع رغيف الخبز الذي تجده بين يديك لتأكله, لقد وصل إليك من فاطر السموات والأرض, بعد رحلة طويلة متعددة المراحل, فقد وصل إليك من المخبز, بعد أن خبزه الخبّاز من دقيق نتج من مطاحن القمح, المصنوعة في مصانع معينة, بعد أن تم درسه وتذريته بآلات زراعية, فور ضمّه من الأرض التي أنبت فيها, بماء ساقه الله من السماء إلى مجاري الأنهار مرورا بسدود وقنوات, بآلات للري, بعد أن بخرته شمس الله من البحار فأرسل الله الرياح بين يدي رحمته, حتى إذا أقلّت سحابا ثقالا ساقه الله إلى بلد ميت, فأنزل به الماء فأخرج به من كل الثمرات.
ويمكننا التسلسل في سرد الخطوات والوظائف والآلات والخبرات التي أوصل الله بها رغيف الخبز إلى يدك؛ بحيث يستحيل أن يتفق كل هؤلاء من خلق الله في الطبيعة وفي الناس على توصيل الرغيف إليك, فتسد به جوعك حين تجوع, وتطعم به أطفالك وأهلك, إلاّ أن الله سبحانه المهيمن قد فتح من رحمته ما لا ممسك لها, فتحرك خلقه في كل مكان, بأمره في كل زمان, حتى يصل إليك رزقك, وما يمسك فلا مرسل له من بعده, وهو العزيز الحكيم, أسباب القوة والغلبة في يده, والحكمة كلها في أمره.
وهكذا مع كل نعمة في يدك أو في الكون من حولك. وفي السورة المزيد…
إن من يذكر نعمة ربه عليه, ويتفكّر في آلاء الله فيسبّح بحمده, يعلم أنه ليس من خالق غير الله يرزقه من السماء والأرض, فإنه يستحيل أن يتّفق كل هذا الخلق ويرتّب كل هذه الترتيبات إلا بأمر الله وإذنه, لا إله إلا هو, فأنّى تؤفكون, أي لماذا تُصرفون عن الله إلى غيره, فتنسبون رزقكم إلى غيره سبحانه؟ ولماذا تؤفكون عن طاعته إلى طاعة غيره في معصية الله, ابتغاء رزق أو فضل؟
إن من يعلم كل هذا, لا ينصرف عن الله إلى غيره, ولا يلجأ إلا إليه, ولا يحتاج إلا إليه, ولا يتوكل إلا عليه, ولا ينشغل إلا به سبحانه وتعالي لا إله إلا هو.
والحمد لله فاطر السماوات والأرض, جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة, مثنى وثلاث ورباع, يزيد في الخلق ما يشاء, إن الله على كل شيء قدير