بسم الله الرحمن الرحيم
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
يقسم الله سبحانه ببعض خلقه, (إن عذاب ربك لواقع, ماله من دافع). ولابد أن للقسم علاقة بالمقسوم عليه. والقرآن بلسان عربي مبين, وبمراجعة معاجم اللغة نسأل الله أن يبين لنا كتابه, ويعلمنا القرآن.
ولكي نفهم القسم, فإننا نستعرض ما قاله معجم مقاييس اللغة لابن فارس, حيث يبين جذور الكلمات وأصولها.. ثم نحاول أن نرسم الصورة التي تعبر عنها الآيات من آيات الله الكونية.
وَالطُّورِ (1):
· “طور” الطاء والواو والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على معنًى واحد، وهو الامتداد في شىء، من مكانٍ أو زمانٍ. وجبل طور سيناء مثال عليه.
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2):
· “كتاب” الكاف والتاء والباء أصلٌ صحيح واحد يدلُّ على جمع شىء إلى شىءٍ. فنقول في عقود النكاح(كتب الكتاب) ونعني بها جمع العروس إلى العريس مع الشهود مع الصداق, مع الظروف والأحوال المناسبة للعقد.
· “سطر” السين والطاء والراء أصلٌ مطّرد يدلُّ على اصطفافِ الشىء، كالكتاب والشجر، وكلّ شىء اصطَفَّ. والمسطور اسم مفعول لسطر.
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3):
· “رقّ” الراء والقاف أصلان: أحدهما صفةٌ تكون مخالفةً للجفاء، والثاني اضطرابُ شيءٍ مائع.
· “نشر” النون والشين والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على فَتْح شىء وتشعُّبِه. والمنشور اسم مفعول لنشر. وعن ابن عباس: منشور ما بين المشرق والمغرب.[1]
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
“عمر” العين والميم والراء أصلان صحيحان، أحدهما يدلُّ على بقاءٍ وامتداد زمان، والآخر على شىءٍ يعلو، من صوتٍ أو غيره. (فيكون البيت المعمور بيتا يعلو) ومثاله البيت المعمور في السماء الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم يخرجون فلا
——————————————————————————–
[1] البحر المحيط
· يعودون إلى يوم القيامة. وربما يكون مثال آخر لبيوت معمورة, يدخلها ناس كثيرون فيخرجون ولا يدخلونها بعد ذلك, كالفنادق مثلا.
ويقول الرازي: وأما البيت المعمور ففيه وجوه: الأول: هو بيت في السماء العليا عند العرش ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة الثاني: هو بيت الله الحرام وهو معمور بالحاج الطائفين به العاكفين الثالث: البيت المعمور اللام فيه لتعريف الجنس كأنه يقسم بالبيوت المعمورة والعمائر المشهورة.
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)
· “سقف” السين والقاف والفاء أصلٌ يدلُّ على ارتفاعٍ في إطلال وانحناء. من ذلك سقف البيت، لأنه عالٍ مُطلٌّ،
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)
· “سجر” السين والجيم والراء أصولٌ ثلاثة: المَلء، والمخالطة، والإيقاد.
فأمّا الملء، فمنه البحر المسجور، أي المملوء،
ويقال للموضع الذي يأتي عليه السَّيلُ فيملؤه: ساجر, وقال ابن عباس: المسجور: الذي ذهب ماؤه.
والمسجور الموقد نارا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لا يركبن رجل البحر إلا غازياً أو معتمراً أو حاجاً فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً “
وقيل: هو اليابس الذي ذهب ماؤه ونضب. وقيل: هو المختلط العذب بالملح.[1]
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
· “مور” الميم والواو والراء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على تردّد.
· والمور: الاضطراب والحركة. قال أهل اللغة: مار الشيء يمور موراً: إذا تحرك وجاء وذهب، وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض, ويطلق المور على الموج[2]
وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)
· جبل الجيم والباء واللام أصلٌ يطَّرد ويُقاس، وهو تجمُّع الشيء في ارتفاعٍ. فالجبل معروف، والجَبَل: الجماعة العظيمة الكثيرة؛
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)
· الوَيْل: حُلولُ الشرِّ.
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
· خوض الخاء والواو والضاد أصلٌ واحد يدلُّ على توسُّطِ شيء ودُخولٍ. يقال خُضْتُ الماءَ وغيرَه، وَتخاوَضوا في الحديثِ والأمرِ، أي تفاوَضُوا وتداخَل كلامُهم.
الخاء ارتفاع للداخل والواو شمول وجمع للشيء, والضاد استطالة, فيكون الخوض, دخول مشمول فيه استطالة, مثل الدخول للماء يغمر الشيء الداخل , وخاض في الحديث أي تداخل كلامه فيه.
وحين نرسم الصورة الكاملة لتلك الآيات الكونية, فإنني أفهمها كالتالي:
يقسم الله سبحانه بالطور أي بالشيء الذي له امتداد على مساحات ضخمة مجموع فيه شيء على شيء(كتاب), وهو مسطور أي مطّرد مصطفّ , كل ذلك يوجد في رقّ, أي مائع[1] مضطرب, منشور أي مفتوح متشعّب. ويقسم سبحانه بالبيت المعمور الذي يكثر دخول ناس فيه, والسقف المرفوع أي العالي, والبحر المسجور أي المملوء أو المخالط لأشياء, أو الذي غمر ثم ذهب ماؤه ونضب, يقسم الله إن عذاب ربك لواقع, ما له من دافع, يومها تمور السماء مورا أي تتردد أو يموج بعضها في بعض في اضطراب وحركة, وتسير الجبال أي الأشياء التي تتجمع في ارتفاع عظيم فتسير سيرا, فيحل ويل أي شرّ لناس في خوض يلعبون, أي داخلين في ماء حتى يخالطهم وهم يلعبون.
فما هي هذه الصورة؟
قد يكون المائع المضطرب المنشور هو البحر في حال ارتفاع أمواجه, المصطفّة باطراد, مجموعة على بعضها, بمساحات ممتدة.
والبحر الذي تمتد مساحاته, وهو منشور أي مفتوح ومتشعب هو المحيط.
والأمواج في المحيط لا تجعله مضطربا إلا من سطحه, فهي تتحرك بسبب الرياح, وأقصى اضطراب فيها يصل طول الموجة السائرة فيه حوالي مائة متر, وارتفاع الأمواج يصل إلى ثلاثة أمتار, وسرعتها تصل إلى خمسة وثلاثين كيلو مترا في الساعة, تلك هي الموجات المولّدة بفعل الله بالرياح.
——————————————————————————–
[1] لباب النقول للخازن
[2] تفسير الشوكاني
إلا أن هناك نوعا آخر من الأمواج, تلك التي تنشأ بسبب زلزال شديد في أعماق المحيطات, والذي قد يتكرر في كل جيل من الأجيال فيُرى ولو مرة في العمر. هذه الظاهرة أطلق عليها اليابانيون كلمة (تسونامي), وآخر ما حدث منها[2] شهدته منطقة المحيط الهندي يوم السادس والعشرين من ديسمبر عام 2004 في أعقاب زلزالً ضخمً بلغت قوته تسع درجات بمقياس ريختر، وقد أعقب الزلزال ظاهرة تعرف “بأمواج تسونامي” أحدثت دماراً واسعاً وقتلت عشرات الآلاف من البشر. فما هي هذه الظاهرة؟
كلمة (تسو نا مي) باللغة اليابانية, تعني أمواج الميناء, أو الأمواج الشاطئية.
وأمواج تسونامي هي عبارة عن سلسلة من أمواج المحيط السريعة والقوية التي تنتج عن الزلازل أو ثورات البراكين أو سقوط الشهب من الفضاء الخارجي في البحار والمحيطات.
ويكثر حدوث ظاهرة أمواج تسونامي في منطقة المحيط الهادي، حيث يوجد أكثر من نصف براكين العالم. وعندما تقع تلك الظاهرة فإن المناطق الساحلية المعمورة مثل المواني والشواطئ تتعرض دون إنذار مسبق في بعض الأحيان، لموجات بالغة القوة. ويمكن لتلك الأمواج أن تحمل صخوراً من حوائط صد الأمواج، وزن الواحدة منها عشرون طنا، وأن تقذف بها لمسافة عشرين متراً.
والفارق بين أمواج تسونامي وأمواج البحر العادية هو أن طاقة الأولى تستمد من حركة الأرض والثانية تستمد حركتها من الرياح.
ويصل طول أمواج تسونامي (أي المسافة بين أول الموجة وآخرها) إلى مائة كيلومتر، كما أن الزمن بين إحدى موجات تسونامي والموجة التالية لها قد يصل إلى ساعة كاملة.
وتصل سرعة أمواج تسونامي في المحيط الهادي إلى 800 كيلومتر في الساعة. فإذا وقع زلزال في مدينة لوس أنجيليس الأمريكية، تصل أمواج تسونامي إلى العاصمة اليابانية طوكيو في زمن أقل مما تستغرقه الرحلة بين المدينتين بطائرة نفاثة.
وعندما تقترب موجات تسونامي من الشاطئ فإن سرعتها تقل وتبدو كموجة عادية, لكنها تتمتع بقوة شديدة للغاية؛ فكلما قل عمق المياه تحت موجات تسونامي مع اقترابها من الشاطئ فإن سرعتها تقل، لكن ارتفاعها يزداد فجأة وبدون مقدمات.
————————————————————————-
[1] والمائع مثل أي سائل
[2] من مراجعة كلمة تسونامي بالعربية أو بالانجليزية على مواقع البحث على شبكة الإنترنت
وعندما تقترب موجات تسونامي من الشاطئ فإن سرعتها تقل وتبدو كموجة عادية, لكنها تتمتع بقوة شديدة للغاية؛ فكلما قل عمق المياه تحت موجات تسونامي مع اقترابها من الشاطئ فإن سرعتها تقل، لكن ارتفاعها يزداد فجأة وبدون مقدمات.
ومن فرط شدة تلك الأمواج عندما تضرب الشواطئ، فإنها تكون قادرة على تجريف رمال الشواطئ واقتلاع الأشجار, بل وتدمير مدن بأكملها. ويصل ارتفاع أمواج تسونامي إلى أكثر من ثلاثين متراً فوق سطح البحر.
وتتمثل خطورة أمواج تسونامي أنها تأتي دون سابق إنذار, ولا يشعر بها حتى الصيادون في مراكبهم حيث لا يزيد ارتفاعها قبل أن تقترب من الميناء على خمسين سنتيمترا.
هذه الآية الكونية, يستحيل دفعها أو مقاومتها, أو الوقوف أمامها, فكل ما ستلقاه على الشاطئ سوف تكسحه لمسافات بعيدة قد تصل إلى ثلاثمائة كيلو مترا.
إن الصورة التي ترسمها الآيات الأولى من سورة الطور, تجسّد هذه الظاهرة الكونية, كما بين الله سبحانه آيات أخرى من الريح, والزلزال, والصيحة, وغير ذلك, فإنه سبحانه هنا في سورة الطور, يبين ظاهرة الموجات الشاطئية أو أمواج الميناء … والله أعلم.
وانظر ماذا كتب الباحثون باللغة الإنجليزية عن ظاهرة تسونامي:
A tsunami (soo-NAH-mee) is a series of waves وكتاب مسطور)) that occur in an ocean or other large body of water ((في رق منشور and that are caused by some activity that displaces large amounts of water. Tsunami is the Japanese word for “harbor wave.”[1]
The phenomenon we call a tsunami is a series of waves وكتاب مسطور))of extremely long wavelength and period generated in a body of water by an impulsive disturbance that displaces the water (في رق منشور).
——————————————————————————–
[1] من شبكة الإنترنت تحت عنوانThe Physics Behind The Wave-
تستكمل الصورة في الآيات التالية..
والبيت المعمور[1]
والسقف المرفوع, اسقف مرفوعة هوت تحت وطأة جبال الموج السائرة سيرا
عادة ما يكون الموج في عرض البحر أكبر منه على الشاطئ, ولكن في حالة الموجات الشاطئية, فإنها ترتفع أمام الشاطئ . وبالتالي فإن شاطئ الميناء يفاجأ بتلك الأمواج, التي تدمر كل شيء بأمر ربها, فهي تدمر البيوت المعمورة في الميناء, والأسقف المرفوعة.
إن البيوت والأسقف لا تكون في البحر عادة, ولا على مائع مضطرب, وإنما يحدث ذلك فقط في حالة الأمواج الشاطئية, أو تسونامي, وهي الكلمة اليابانية التي تعبر عن هذا النوع من الأمواج.
ويهاجم الموج عندئذ ليملأ البر كله, ويخالطه, فيكون البر بحرا لفترة قصيرة ثم هو يذهب ماؤه وينضب بعد ذلك, وهو ما تصفه وتجسده كلمة (والبحر المسجور)
والبحر المسجور
فإذا وقعت هذه الكارثة, فإنها تأتي بعذاب لمن حضرها, يقع ما له من دافع, فما الذي يمكن أن يدفعه؟ وكيف؟!!
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)
كذلك عذاب ربنا سبحانه, نسأله السلامة. صدق قسم الله وصدق الله العظيم.
وفي أثناء ظاهرة تسونامي, حين ينظر الناس إلى السماء لا يرون إلا موجا مترددا فوقهم, يسير كالجبال بهذه الارتفاعات الشاهقة التي تزيد عن الثلاثين مترا, بارتفاع أعلى من عشرة أدوار سكنية. ويسير موج كالجبال سيرا..
تظهر الصور الملتقطة لحظة حدوث كارثة تسونامي أن ناسا كانوا يخوضون في البحر ويلعبون مع أطفالهم في وداعة واستسلام للبحر الذي كان يبدو هادئا جميلا, ثم على فجأة قامت الأمواج وظهرت دون مقدمات. فكيف كان شعور هؤلاء؟
وصدق الله العظيم: (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12))
——————————————————————————–
[1] على قول الفخر الرازي, كأنه يقسم بالبيوت المعمورة والعمائر المشهورة
إن هذه السيدة التي هرعت إلى البحر لتنقذ ابنها وابنتها من تسونامي, وهي في مظهرها الذي نهى الله عنه, مثلها مثل كل من يخالف أوامر الله في أي مجال, مكذبا بالقرآن وبالحساب وبأهوال يوم القيامة التي أنذرنا الله بها في كتابه, إنهم جميعا مكذبون, ينذرهم الله بالويل والهلاك, لعلهم يرجعون.
إن الله سبحانه الذي يحدث هذه الظاهرة, هو الذي ينذر بأهوال يوم القيامة, والأحداث المصاحبة له.
أما الذين يكذبون بما ينذر الله به, فإنهم مثل هؤلاء الذين كانوا في خوض يلعبون في غفلة مما يمكن أن يحدث لهم, يطمئنون إلى سكون البحر وهدوء موجه, لا يرون فيه شرا ولا عذابا.
وهذا ما سيفاجأون به يوم القيامة, ( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
إنهم أثناء وقوع كارثة تسونامي لا يصدقون أعينهم, وكأنه السحر, ولكن وقوعه لمئات الألوف من الناس في لحظة واحدة, يجب أن يكون نذيرا لكل الناس على الأرض ويجب أن يذكّر به الدعاة إلى الله في كل حين, حتى يصدق الناس بيوم الدين, وحتى لا يفاجأوا بنار جهنم, فلا يصبرون عليها, جزاء بما كانوا يعملون, وبما كانوا يكذبون, نسأل الله السلامة.
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)
حين تقع هذه الكارثة يسأل الله الناس: أفسحر هذا؟ هل يمكن أن يقال عن القرآن إنه سحر؟ فكيف علم صلّى الله عليه وسلم بهذا الأمر الذي لم يكن على عهده, وربما لم تسجل كتب التاريخ أمره من قبل, ولم يركب عليه الصلاة والسلام البحر, وحتى لو ركبه, فهذه الظاهرة لا تحدث عادة إلا في المحيطات, ونادرا ما تحدث! أفسحر هذا!!! أم أنتم لا تبصرون؟!!
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
وأما المؤمنون المصدقون بما أنذر الله به, يكونون مشفقين من عذاب ربهم, يدعونه رغبا ورهبا. نسأل الله أن نكون منهم. فيؤمّنهم من الفزع يومئذ, ويوم القيامة, ووقاهم ربهم عذاب الحجيم.. يصف الله حالهم المغايرة تماما في كل تفاصيلها ودقائقها لما يحدث أثناء تسونامي:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ[1] بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ[2] (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
انظر إلى النعيم الذي يدخره الله لهم في جناته, فهم في طيب واستطابة, ووقاية من عذاب الجحيم الذي هو أشد من تسونامي, يدعوهم الله للأكل والشرب في هناء بما كانوا يعملون
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
قارن هذا المنظر في الجنة, بما يحدثه المكذّبون بآيات الله المعرضون عن هداه, حيث لا يرضون بالزواج الحلال, وإنما يعبثون بالفواحش.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
—————————————————————————-
[1] فكه الفاء والكاف والهاء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على طِيب واستطابةٍ.
[2] جحم الجيم والحاء والميم عُظْمُها به الْحرارةُ وشدَّتُها. فالجاحم المكان الشديدُ الْحرِّ،
قارن هذه الصورة بما يكون من المكذبين, حيث يطوف عليهم فتيات وفتيان فيمدونهم باللحم الحرام, و يسقونهم كئوس الخمر المليئة بالإثم.
إن الله سبحانه يبرر ما هم فيه من النعيم المقيم, حيث يلتقي المتقون في جنات الله ونعيمه, فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون, ليفهموا ويبرروا إنقاذهم من عذاب الله حيث كانوا مشفقين حذرين من معصية الله, كالسائر على بستان من الشوك, فهو يميل ذات اليمين وذات الشمال مخافة أن تصيبه شوكة, كذلك المتقون يتقون كل ما يظنون أو يعلمون أنه يغضب الله, بل يتورعون عن بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام. فتكون النتيجة التي تنتظرهم هي أن الله يقيهم عذاب السموم.
إنهم يتساءلون لماذا أنقذهم الله في حين أهلك غيرهم من الناس؟
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ[1] (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ[2] (27)
السًّموم: من السُمّ أو السًّمّ. بفتح السين أو ضمها. الذي يداخل الشيء من خارجه يكون بالفتح وذلك مثل الريح الحارة التي تدخل المسام، فتؤثر على خارج الإنسان, والذي يداخله من داخله يكون بالضمّ, كالسُّم الذي يشربه الإنسان فيؤثر فيه من داخله.
إن المتقين يذكرون منّة الله عليهم أن وقاهم عذاب السّموم, وما يحدث في كارثة تسونامي يداخل الأجسام من خارجها بالإغراق والغمر, فيكون سَموما, وليس سُموما. والله أعلى وأعلم.
ولنتصور أمواجا بارتفاع 30 مترا, تغرق إنسانا. فيكون كل متر مربع من الأرض فوقه ثلاثون مترا من الماء الملح, أي أنه يحمل أكثر من ثلاثين طنا من الماء. إن هذا الوزن من الماء يكفي لإدخال الماء من كل فتحات الجسم: من الفم والأنف والأذنين والعينين, بل حتى من المسام, فيداخل الجسم ويوصف بعذاب السَّموم, نسأل الله أن يقينا منه.
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
لقد كانوا من قبل يدعون الله باسمه الأعظم الذي ينقذهم وقت حلول العذاب, إنه هو البر الرحيم….
واسم الله البرّ الرحيم, اسم منفرد في كتاب الله, لم يذكر إلا في سورة الطور, وهو حكاية وحده….
البرّ الرحيم
يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: برّ الباء والراء في المضاعف أربعة أصول: الصدق، وحكايةُ صَوتٍ، وخِلافُ البَحْرِ، ونبتٌ.
ومن علم الحروف الفواتح الذي هدانا الله إليه, الباء حرف إبداء بعد إخفاء, والراء حرف تكرير, وبرّ, أي شيء بدا بعد خفاء, وتكرر ثم تكرر بالراء المشددة. وهذا يجمع كل الأصول الأربعة التي ذكرها ابن فارس. في تفصيل بنهاية البحث لمن أراد الاستزادة[i]
والبر الذي هو بخلاف البحر,
—————————————————————————-
[1] شفق الشين والفاء والقاف أصلٌ واحد، يدلُّ على رِقَّةٍ في الشىء، ثم يشتقُّ منه، فمن ذلك قولهم: أشفقت من الأمر، إذا رَقَقْت وحاذَرت،
[2] سمّ السين والميم الأصل المطّرد فيه يدلُّ على مدخلٍ في الشىء، كالثَّقب وغيره، والسّموم: الريح الحارّة، لأنَّها أيضاً تُداخِل الأجسامَ مداخَلةً بقوّة.
————————————————————————
[i] البر
برّ الباء والراء في المضاعف أربعة أصول: الصدق، وحكايةُ صَوتٍ، وخِلافُ البَحْرِ، ونبتٌ. (ابن فارس)
الباء إبداء بعد إخفاء, والراء تكرير, وبرّ, أي شيء بدا بعد خفاء, وتكرر ثم تكرر.
وهذا يجمع كل الأصول الأربعة يا ابن فارس رحمك الله وجزاك عنّي خيرا.
فالصدق الذي تعنيه, هو مثل صدق الوعد, أي كأن رجلا وعد بشيء, وكان هذا الشيء وهذا الوعد مخفيّا, فجاء به الرجل صدقا لوعده, فكأنه أبداه بعد إخفاء, وأداه, أي لم يبده ثم يخفه مرة أخرى, ولكنه أبداه وأدّاه, فهو رجلٌ بَرٌّ, وأبرّ يمينه أي أمضاها على الصدق. وحجة مبرورة, أي يظهرها الله عليه أثرا في خلقه وتصرفاته, فلا تكون حجة بإجراءاتها ووقتها وحسب, ولكنها تظل مستمرة الظهور عليه باستمرار بعد عودته منها, وبذلك يبشر رسول الله صلّى الله عليه وسلم, بأن الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة.
والجواد المبرّ عكس المقرف: (قال ابنُ الأعرابيّ: سألتُ أعرابيّاً: هل تعرفُ الجوادَ المُبِرّ من البطىء المقْرِف؟ قال: نعم،
قلت: صفهُما لِي. قال: «أمّا الجواد فهو الذي لُهِز لَهْزَ العَيْر، وأُنِّف تَأنيفَ السَّير، الذي إذا عدَا اسْلَهبَّ، وإذا انتصبَ اتلأَبّ؛ وأما البطىء المقْرِف فالمدلوك الحجَبة، الضَّخمُ الأرنبة، الغليظ الرَّقبَة، الكثير الجَلَبَة، الذي إذا أَمسَكْته قال أرْسِلْني، وإذا إرسَلْته قال أمسِكْني».) فالمقرف هو الذي تنتظر منه الشيء فلا يبديه ولكنه يعكس توقعك منه. ومن الحروف يظهر معناه, ولكن فلنختصر.
ومنه بِرّ الوالدين, فهو يبدو لهم كلما اختفى, ويمضي في متابعتهم باستمرار, من الإبداء بعد الإخفاء ثم الاستمرار ثم الاستمرار بالراء المشددة, والكسرة على باء (بِرّ) تدل على النزول إليهما ولو كانت باء مفتوحة لدلت على خروجه من عندهم.
وأمّا حكايةُ الصَّوتِ فالعرب تقول: «لا يَعْرِفُ هِرّاً من بِرّ»، فالهِرّ دُعاء الغنم، وَالبِرّ الصَّوتُ بها إذا سِيقَتْ، (و) يقال: لا يعرف مَن يكرهُه ممّن يَبرّه. والبَربرة: كثرة الكلامِ والجَلَبَةُ باللِّسان،(ابن فارس) وهو تكرير لصوت الدعاء بالغنم إذا سيقت, وهو يبدو ويمضي في تكرير
والبربرة, إبداء وتكرير, ثم أخفاء فإبداء فتكرير
وربما تكون تسمية البربر لتكرير ظهورهم وخفائهم ثم ظهورهم
والأصل الثالث هو الذي نحن بصدده الآن, وهو البر بخلاف البحر, فالبحر يبدو وكلما دخلت فيه فأنت إلى داخله بحرف الحاء الساكن, ثم باستمرار تكرير الراء, فيكون بحْرا, أما حين يبدو شاطئه بعد طول خفاء فإنه يكون بَرّا أي بدا بعد إخفاء واستمر بتكرير مضاعف, فيكون برّا.
وأما النبت فمنه البرّة, وهي الحنطة, وهو نبات قصير متكرر كثيف التكرير, وهو بالباء المضمومة فيكون لداخل الأرض… متكاثفا
ولفظة بحر من علم الحروف تبدأ بحرف الباء الذي هو إبداء بعد إخفاء, فيبدو البحر بعد طول سير في الأرض, حتى إن بدا, لا ترى داخله أو نهايته لا في عمقه, ولا في عرضه إلى الشاطئ الآخر, يمثل ذلك حرف الحاء الساكن الخارج من أقصى الحلق, ثم يستمر عمقه أو عرضه يدل عليه حرف الراء الذي يتصف بالتكرير, فيكون بحْرا, أما حين يبدو شاطئه بعد طول خفاء فإنه يكون بَرّا أي بدا بعد إخفاء واستمر بتكرير مضاعف, فيكون برّا.
ورغم أن مساحات البحار والمحيطات أضعاف مساحات الأرض, إلا أن الإنسان يعيش على اليابسة, ويركب البحر مضطرا للصيد أو للسفر, فالأصل عنده الأرض اليابسة.
فإذا كان الإنسان في البحر, فإنه قد يتعرض للأمواج العالية ولاضطراب البحر, فيتمنى أن ينجو إلى البرّ, ظنا منه أنه آمن له.
يقول الله سبحانه: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)[1]
ويقول: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) (يونس)
هنا البر إنقاذ من موج البحر
ويقول سبحانه: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) (الإسراء)
هنا في الإسراء, يبين الله أن الناس في البحر يدعون الله إذا مسهم الضر في البحر, فلا يجدون إلا إياه سبحانه ينجيهم إلى البر, فإذا أنجاهم إليه أعرضوا, وهو لا يأمنون أن يخسف بهم جانب البر, أو يرسل عليهم حاصبا ثم لا يجدوا لهم وكيلا, كما لا يأمنون أن يعيدهم فيه تارة أخرى فيرسل عليهم قاصفا من الريح فيغرقهم بما كفروا, ثم لا يجدوا لهم على الله به تبيعا, وبنو آدم يحتاجون إلى أن يكرمهم الله ويحملهم في البر والبحر, سبحانه, الله كرّمنا يارب, واحملنا في البر والبحر, فأنت البرّ الرحيم.
إذن فالبرّ ليس دائما آمنا, فقد يكون هلاكا, ولكن الناس يظنون ذلك, فما هي شروط البرّ لكي يكون آمنا؟
إن الشرط الأساسي للبرّ لكي يكون آمنا, أن تكون به رحمة ولا يكون هلاكا, ولا يكون ذلك إلا من الله البرّ الرحيم,
والبرّ الرحيم هو اسم الله الأعظم للأمن من كوارث البر, ومن كوارث تسونامي وأمثالها, نسأل الله السلامة.
الله البر الرحيم, الذي تبدو رحمته في الوقت الذي يرجوها الإنسان حين يجد الدنيا وقد هاجمته وعاجلته وأطبقت عليه, فلا يجد أحدا يبدو له ويستمر في الإبداء مصاحبا للإنسان برحمته, إلا الله وحده لا شريك له, فهو يبر عباده في الوقت الذي لا يبرهم أحد ولا شيء, حين يطبق العذاب من فوقهم, إن الله سبحانه هو البر الرحيم
إن الأسماء الحسنى المذكورة مجتمعة لابد وأن لها ارتباط ببعضها, فاسم الله البر لابد وأن يقترن بالرحيم, حين يكون الحديث عن حاجة الإنسان لبر الله له بوعده في الخير, وإنما مثلا من أسماء الله وصفاته أنه صادق الوعد, ولكن هذا الوعد قد يكون لأهل الجنة أو يكون لأهل النار (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا, قالوا نعم) فإذا كان الوعد بعد شعور الإنسان بالحاجة الماسة التي لو لم يدركه الله برحمته هلك, فإنه يدعو الله باسمه الأعظم حينئذ (يا بر يا رحيم)
إن المتقين في سورة الطور, كانوا من قبل يدعون الله في الدنيا, وهم مشفقون من عذابه, غير غافلين عنه, مدركون أن أي أمن دون تأمين الله ووقايته, ليس أمنا, ولكن الأمن كل الأمن هو من البرّ الرحيم سبحانه وتعالى.
———————————————————————–
[1] الأنعام
فَذَكِّرْ …
لقد نزلت سورة الطور في مكة أواخر العهد المكيّ, بعد أن لبث رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها سنين عددا يبين للناس, ويتوجه لأحلامهم تارة, ولقلوبهم تارة, ولمعلوماتهم تارة, ولتاريخهم تارة, ولمصالحهم, يذكرهم بأنعم الله عليهم, وبقدراته وحاجتهم إليه جلّ شأنه, فآمن من آمن, وظل كثير منهم على كفرهم وشركهم وعنادهم وتكذيبهم.
وقبل أن يهاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة, أنزل الله إليه سورة السجدة, وتلتها مجموعة من السور بدأت بالطور, تنذر بعذاب الله في الدنيا وفي الآخرة, فقال في السجدة: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون)
لهذا فإن أي ظواهر طبيعية مهلكة ومدمرة لأعداد من البشر, هي من العذاب الأدني الذي يذكر الله سبحانه أنه يذيقه للناس لعلهم يرجعون, لذا فإن الدعاة إلى الله, لابد أن يستثمروا هذا العذاب الأدنى لتذكير الناس بالعذاب الأكبر لعلهم يرجعون.
كانت سورة الطور مثالا لذلك, وهي تستثمر عذاب ظاهرة تسونامي أو الأمواج الشاطئية أو أمواج الميناء في دعوة الناس للتعقل وإعادة النظر في أسباب معارضتهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم, وتتركهم بعد ذلك لعقولهم لعلهم يرجعون, تخيفهم من عذاب حقيقي يشهده بعضهم, ويراه بقية الناس الآن على القنوات الفضائية, وعلى شبكات الإنترنت, ويسجلونه بالصوت والصورة والتعليقات, ولكن سرعان ما ينسونه.
ويقول فيموكاثي وييراتونجا منسق عمليات الاتحاد الدولي لحماية البيئة في سيريلانكا (ان الناس باتوا يميلون الى احترام الطبيعة بشكل اكبر بعد تسونامي)[1].
وأظنه يعني “إن الناس باتوا يرهبون ويشفقون من عذاب ربّ الطبيعة بشكل أكبر بعد تسونامي”. ولو أنهم فعلا باتوا يميلون فقط إلى احترام الطبيعة, فإن ذلك من تقصير المؤمنين والدعاة إلى الله, نسأل الله العفو والمغفرة على ما فرطنا في جنب الله وفي الدعوة إليه, فلم نستثمر أخذ الله أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرعون.
في هذا المقطع من السورة, يُلجئ الله الناس إلى أحلامهم, خاصة هؤلاء الذين ما أتاهم من نذير من قبل محمد صلّى الله عليه وسلم لعلهم يهتدون, يسوق لهم كل الاحتمالات التي قد تدفعهم لتكذيب رسول الله – بأبي هو وأمي- فيقول سبحانه:
فَذَكِّرْ …
1. (فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ) وقد سبق تفنيد هذه الحجة وشهد عليها أئمة الكفر أنفسهم مثل الوليد ابن المغيرة, فالكهانة لها شواهدها.
2. (وَلَا مَجْنُونٍ (29)) كذلك الجنون يشهد بنفيه أصحابه حيث يستحيل أن يكون لك صاحب مجنون ثم لا تعرف عنه ذلك. (وما صاحبكم بمجنون)
3. (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)) فالعرب يعرفون الشعر وبحوره وقوافيه, والقرآن ليس بقول شاعر
4. (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا ) والـحِلْـمُ ، بالكسر: الأَناةُ والتثبُّت فـي الأُمور, والـحِلْـم: نقـيضُ السَّفَه؛ فهو سبحانه يلجئهم لأحلامهم مع التروي والأناة والتثبت وعدم السفه, حتى يصلوا في هدوء وأناة إلى تصديق رسول الله وكتاب الله, وعدم تكذيبه.
5. (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) )وإلا فهم يتجاوزون الحدود ويعتدون عليها.
6. (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)) يتحداهم إن قالوا إنه يستطيع أن يتقول القرآن, فليأتوا هم بحديث مثله
7. (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)) فإن لم يكن كل ما سبق, فهل هم مخلوقون من غير شيء؟ أم أنهم هم الخالقون؟ كل هذه قضايا ذهنية بحتة, لا تتجه إلى المشاعر والقلوب قبل أن تتجه إلى الأحلام التي تبحث وتتأني وتتروّى وتبعد عن السفاهات, لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون.
8. (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ (36)) لا يدّعي أحد أنه خلق السماوات والأرض, وإنما يدعون أنها من الطبيعة بدون خالق, وهم بذلك لا يقين عندهم, وإنما هو ادعاء بالغيب الذي يكذبون به.
9. (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ؟ أَمْ هُمُ الْمُصيْطِرُونَ (37)) فإن لم يكن كل ما سبق, فيسألهم الله سبحانه, هل عندهم الخزائن التي تخرج منها الأرزاق والأحوال, والقوانين المنظمة لحركة الكون, أم أنهم هم المصيطرون بالقوة عليها؟ وهم لا يدعون أيا من ذلك, ولكنها قضايا ذهنية لتحكم الأحلام فيها لعلهم يهتدون فلا يكذّبون الحقائق.
10. (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)) السُّلَّمُ بفتح اللام واحد السَّلاَليمِ التي يرتقى عليها[2]. أي وسيلة يرتقون عليها حيث يتمكنون من الاستماع إلى الأمر الذي يحدث بالكارثة, ولن يكون لهم سلّم يستمعون فيه حيث تحداهم الله به.
11. أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أم يعتمدون على أن يكون لهم البنون يتميزون بهم على الله, ويجعلون له البنات؟
12. أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أم هم يخشون ثقل الأجر الذي يسألهم رسول الله, لهذا فالأجر على الدعوة أمر مرفوض, ويشكك الناس في صدق وإخلاص الداعية, الله لا تحوجنا إلا إليك, ولا تلجئنا إلا إليك, ولا تكلنا إلا عليك, ولا تشغلنا إلا بك, اللهم واكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
13. أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أم إن المكذبين يدعون علم الغيب فيستطيعون به أن يدفعوا عذاب ربك؟ إن الزلزال, وموجات تسونامي, ما لها من دافع, ولم يتوصل الناس الآن حتى لمجرد معرفة وتوقع حدوثها بفترة كافية, كما أنهم لم يتوصلوا بعد لحماية أنفسهم منها, وبدلا من أن يعلموا أن النجاة منها إنما يكون في تقوى الله والتصديق بكتابه وبرسوله وبالبعث والحساب والجزاء والجنة والنار, فإنهم يفكرون في زراعة شجر المنغروف الذي لاحظوا أن المناطق التي يكثر بها قل فيها هلاك الناس, إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع, فليتعلم الناس من المتقين أنه لأنهم كانوا قبل في أهلهم مشفقين, فإن الله سبحانه منّ عليهم ووقاهم عذاب السموم, إنهم كانوا من قبل يدعون الله إنه هو البر الرحيم.
14. أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أم أن المكذبين قد توصلوا للحقيقة, ولكنهم يريدون كيدا, فالله سبحانه يرد كيدهم وهم المكيدون
15. أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) إم أنهم في النهاية لهم إله بحق غير الله؟ إن الذي عند الله, والذي يستطيعه الله, لا يستطيعه أحد سواه, سبحان الله عما يشركون
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
أي نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب لعلهم يرجعون وينيبون فلا يفهمون ما يراد بهم، بل إذا جلى عنهم مما كانوا فيه، عادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه كما جاء في بعض الأحاديث «إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك كمثل البعير، لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه»[3]
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من تعارّ من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال، رب اغفر لي أو قال ثم دعا استجيب له، فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته» وأخرجه البخاري
أصناف العذاب في السورة:
لقد عدد الله سبحانه أصنافا من العذاب الأدنى في السورة, من التي يراها الناس في الدنيا قبل الآخرة, لعلهم يرجعون كما قال سبحانه في سورة السجدة , فذكر كارثة الطور وكتاب مسطور في رق منشور, وما يصاحبها, وذكر الويل, وعذاب الجحيم, وعذاب السموم, والكسف الساقط من السماء, والصاعقة, وكل هذا عذاب دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون.
ولابد للدعاة إلى الله من أن يستثمروا هذه الأحداث في دعوة الناس وبيان صيطرة الله عليهم وقدرته والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون, وهو القاهر فوق عباده, ويرسل عليكم حفظة, بيده ملكوت السماوات والأرض, وإليه يرجع الأمر كله, وإليه الملجأ والملاذ, وهو الله أحد, الله الصمد, إنا كنا من قبل ندعوه, إنه هو البَرّ الرحيم.
إن سورة الطور نذير للناس وللمكذبين خاصة, حيث يبين الله لهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون
فليستثمرها الدعاة إلى الله حتى يؤدوا حقها, وحتى يتشرفوا بأن يستعملهم الله على دينه, (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم, ولئن كفرتم إن عذابي لشديد, وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد)
اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمة الهداية, واستعملنا اللهم على طاعتك وعلى دعوتك, وأتمم بنا نورك ولو كره الكافرون, وأظهره يارب بنا على الدين كله ولو كره المشركون
مواقع ومراجع
http://observe.arc.nasa.gov/nasa/exhibits/tsunami/tsun_bay.html
——————————————————————————–
[1] من موقع هيئة الإذاعة البريطانية في ذكرى كارثة تسونامي, على شبكة الإنترنت
[2] مختار الصحاح
[3] ابن كثير