منذ أن تعهّد الله رسوله بالقراءة والتعليم , عرّفه بأنه سبحانه هو ربّه الذي خلق , ثم قال: (سبح اسم ربك الأعلى. الذي خلق فسوّى) وهو الآن في الفجر , يعرّفه المزيد:(وَالْفَجْرِ(1)وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ(3)وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ(4)هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ(5)).
والفجر.. هو الوقت المعروف , أوالليالي العشر الأواخر من رمضان أو الأوائل من ذي الحجة , على أقوال للعلماء. وهو الانفجار , انفجار النهار , أو انفجار العام ببدء شهر المحرّم على أقوال أخرى..
وأرجّح أن يكون الفجر هو تفصيل بداية المرحلة الأولى من الخلق التي أجملها الله في سورة الأعلى في ( الذي خلق فسوّى), فيكون الفجر إشارة إلى الانفجار الأول الذي أنشأ الله به الكون الذي نعيش فيه.
وتبعه عشر مراحل من الليل المظلم , تم فيها تجهيز الدنيا لاستقبال الخلق, وهي المفصّلة في سورة فصّلت, وتأتي في حينها بإذن الله.
والشفع والوتر من مخلوقات الله التي خلق بعضها زوجين , فهي شفع , ومن البعض الآخر خلق وترا ..
ثم سرى ليل طويل في حين من الدهر لم يكن فيه الإنسان شيئا مذكورا.
وهو قَسَم لكل ذي حجر, أو لصاحب عقل ولبّ , الذي يرى قدرات الله في الخلق , فيمتنع عن الكفر, أو الخروج عن طاعة الله صاحب هذا الكون ومنشئه وخالق كل شيء فيه .
وإن صح هذا المعنى , فإن الله سبحانه يستكمل عرض قصة الخلق التي بدأت في سورة العلق: (اقرأ باسم ربك الذي خلق).. ثم في الأعلى(الذي خلق فسوّي) وهنا يبين تفصيلات أخرى عن كيفية خلق الكون وما فيه..في طريق استكمال التعريف بالله وقدراته ..
• كيف ردع الله الطغاة والمفسدين؟
كانت دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم , تواجه فئة الذين كفروا , المتخذين مواقف عنيفة ضد الدعوة , وقوة المسلمين لم تكن قد بنيت بعد بالشكل الذي يمكّن من مواجهة موجات الكفر , فيطمئن الله عباده المؤمنين إلى قدراته في ردع قوى الشر والفساد والكفر . فيستشهد بتاريخ أمم كفرت بأنعم الله , وطغوا في البلاد , فأكثروا فيها الفساد..
وهذه أمثلة من التاريخ الإنساني لقوم ملكوا من الدنيا مظاهرها , ولكنهم أكثروا فيها الفساد ,فلم يغن عنهم ملكهم من الله شيئا.
فتلك عاد التي لم يُخلق مثلها في البلاد, (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6)إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7)الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ(8)
وهذه ثمود (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(9) ,
وهذا فرعون وملؤه (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ(10)الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ(11)فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12) فلم يتركهم الله على فسادهم : فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)
ونحن نردد هذه الآيات حين لا نستطيع مواجهة قوى الكفر والفساد والطغيان بأنفسنا وقوتنا , لضعف عارض بالأمة ,في فترة من فترات يداول الله فيها الأيام بين الناس, فنقرأ ونطمئن (إن ربك لبالمرصاد) , فكما أهلك الله عادا وثمود وفرعون, على ما كانوا عليه من القوة الحضارية , والجسدية , والفنية , والسياسية والعسكرية , فسبحانه هو القادر على أن يبعث على طغاة اليوم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب , وُيهزم الجمع ويولون الدبر.
وبناء على ذكر ما فعل ربك بعاد وثمود وفرعون, فهو يؤكد للناس على أن ما في أيديهم من نعمة ليس إكراما , ولا ما يحرمون منه إهانة. ولكن المقصود هو العمل الصالح الذي ينفع في الآخرة , بعد أن علم الناس شأنها واعتقدوا في وقوعها. ويهوّن الله من شأن الدنيا بكل متاعها, ويجعل القيمة فيها في الطاعة والخير والعدل والإصلاح, وذلك هو بُعد عقيدة البعث والحساب في الآخرة وتأثيره على أداء الإنسان .
ويضع الله قواعد الابتلاء , وعلينا أن ندرك ابتلاءات الله بالإكرام والتنعيم , وابتلاءاته بتقليل الرزق , وليس في هذا ولا ذاك إكرام ولا إهانة , وإنما هو الابتلاء..(فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
والمطلوب منا , هو أن يتحول الإيمان في قلوبنا إلى خُلُق, وذلك بالممارسة العملية , وإخراج الدنيا من قلوبنا , لتكون في أيدينا..
ثم ينزع الله من قلوب عباده المؤمنين حب المال, حتى يكون في أيديهم بدلا من أن يملأ قلوبهم. فيتصرفون فيه بما ينفع غيرهم من الضعفاء في المجتمع, مثل اليتيم الذي لا عائل له (كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17), والمسكين الذي لامال يكفيه (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(18), ويذم الله أكل التراث أكلا لمّا , وحب المال حبا جما (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا(19)وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20)
وينبه إلى أن الأرض نفسها ستدك على ما فيها, (كَلَّا إِذَا دُكَّتْ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا(21) فلا يبقى إلا عمل الإنسان, أما ممتلكاته وأمواله التي لم يتصرف فيها بعد فسوف ينالها ما ينال الأرض, وأما التي تصرف فيها فستسجّل عليه, وبالتالي فإن الذي سينفعه في ذلك اليوم هو الذي تصرف فيه بالحكمة بما يرضي ربّه الذي يجيء وقت حسابه, والملك صفّا صفّا (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22)
ثم يكون الجزاء بعد الحساب, (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ..) فيتذكر الغافل الذي تأخر تذكّره حتى لم يعد ينفعه يومئذ (.. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى(23) فيعلم أن الآخرة ليست فقط خيرا وأبقى, وإنما هي حياته (يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ(26) ,
وعلى الجانب الآخر, فإن النفس التي استجابت لربها في الدنيا, فأرضته, تكون بين يديه مطمئنة فيناديها على رءوس العباد: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي(30)الفجر
أضاف الله عمقا جديدا للبرهان على التكذيب بالحسنى , وهو عدم إكرام اليتيم , وعدم الحض على طعام المسكين , وأكل التراث أكلا لمّا , وحب المال حبا جمّا, وهو ما يجعل الإنسان يؤثر الحياة الدنيا , وبالتالى يقل تأثير اعتقاده في البعث والآخرة.
وهذا لاينفعه حين تقوم الساعة فيتذكّر وأنى له الذكرى,
……. …….
أكّدت سورة الفجر على صور التصديق بالحسنى , وصور التكذيب بالحسنى , وعملت على إضعاف تأثير متاع الدنيا ونعيمها على الناس, خاصة المال , وحثت على الزهد فيه , حرصا على الآخرة التي هى ليست فقط خيرا وأبقى , بل هي الحياة نفسها.
كما وسّعت دائرة التطبيقات لتشمل الناس جميعا بكل مستوياتهم الاقتصادية , ففى الليل ذكر العطاء والمال , وهنا في الأعلى ذكر إكرام اليتيم , والحض على طعام المسكين, وهي أمور يمكن فعلها سواء كنت غنيا أو كنت فقيرا.
والهدف أن يكون في حياتك وأعمالك ما هو موجّه مباشرة إلى الآخرة , كبرهان على تصديقك بالحسنى , وإلا فماذا يكون معنى إيمانك.
هذه ممارسات مهمة في العقيدة , لتخرجها من الاعتقاد بوجود الله وأن البعث حق والجنة والنار حق , إلى الفعل الإيجابي قدر المستطاع , فتربّي المؤمنين على الإخلاص والبعد عن الرياء.
(من معجم مقاييس اللغة لابن فارس: حجر الحاء والجيم والراء أصلٌ واحد مطَّرد، وهو المنْع والإحاطة على الشيء: فالحَجْر حَجْر الإنسان، وقد تكسر حاؤه. ويقال حَجَر الحاكمُ على السَّفيه حَجْراً، وذلك منْعُه إيَّاه من التصرُّف في ماله؛ والعَقْل يسمَّى حِجْراً لأنّه يمنع من إتيان ما لا ينبغي، كما سُمّي عَقْلاً تشبيهاً بالعِقال،)